منذ نحو تسعة أشهر، لم يتقاض آلاف المدرّسين في قطاع غزة رواتبهم. ورغم ذلك يلتزم معظمهم بأداء عملهم، وسط ظروف بالغة الصعوبة يعيشونها. ولا يحصدون سوى الوعود من حكومة التوافق التي صرفت لهم دفعة من مستحقاتهم أخيراً.
جميع هؤلاء المدرّسين عيّنتهم الحكومة المقالة في السنوات الست الأخيرة. لكنّ عقد اتفاق المصالحة الفلسطينية، أحال مسؤوليتهم إلى حكومة التوافق. ورغم مرور عدة أشهر على تشكيل الحكومة، لم يُصرف لهم أيّ راتب. وما حصلوا عليه لا يعدو كونه "مساعدة" صُرفت عبر وزارة الشؤون الاجتماعية، وليس وزارة المالية.
أخيراً، لم يجد المدرّسون سوى الإحتجاج للضغط على المسؤولين لوضع حد لمعاناتهم. وبالفعل أضربوا عن العمل "جزئياً"، ولوحوا بالإضراب الكامل إن لم يتم إنصافهم، ومنحهم حقوقهم المالية.
وفيما يتحدث الجميع عن الرواتب، لا ينظر أحد لمصير مئات الآلاف من التلاميذ الذين بات مستقبلهم معلّقا بمناكفات ظاهرها نقابي، وأصلها سياسي. ولا يخفي الأهالي قلقهم، ويطالبون بإسدال الستار على هذا الملف.
"عاطل عن العمل، برتبة مدرّس".. هكذا يصف فايز الأخرس نفسه متهكماً. ويقول لـ"العربي الجديد"، إنه لا يشعر قط بأنه موظف حكومي، في ظل عدم حصوله على راتبه منذ أشهر. ويعترف بأنه لم يعد قادراً على إعطاء كل ما لديه لتلاميذه، بسبب حالته النفسية السيئة.
ويضيف المدرّس الثلاثيني: "لدي مسؤوليات عائلية كثيرة. حتى خلال الفترة التي كنت أتقاضى فيها راتبي، لم تكن حالتي مثالية بفعل تواضعه. لكن على الأقل كنت أستطيع تدبر أمور حياتي. أما الآن فالحال لا يمكن وصفه".
عبد الله محمد، مدرّس آخر، يسكن بيتاً مستأجراً في مدينة رفح، متزوّج ولديه طفل رضيع، يقول لـ"العربي الجديد" إنه أصبح يائساً، لدرجة أنه كره اليوم الذي التحق فيه بسلك التعليم. مع كل صباح يخوض محمد نضالاً جديداً لتوفير الحليب والحفاضات لطفله. ويمضي نهاره يفكّر في كيفية دفع إيجار المنزل.
اضطر الأستاذ عبد الله أخيراً إلى رهن بطاقته الشخصية لدى صاحب إحدى الصيدليات، للحصول على دواء لطفله. وعن ذلك يسأل: "كيف لصاحب مهنة محترمة كالتعليم أن يصبح مُطارداً من أصحاب البقالات والصيدليات، ويتوارى لكي لا يراه صاحب المنزل؟".
آخر ما اهتدى إليه تفكير المدرّس الذي كان مجتهداً في عمله، ويفكر في الحصول على شهادة الماجستير، هو قرار الهجرة. فالتسلل في نفق أرضي، والركوب في قوارب الموت إلى أوروبا، لم يعد يمثّل أيّ مشكلة لديه. على العكس تماماً، فقد بات الهروب حلاً مطلوباً، لكنّه في الوقت عينه، حلم وطموح يبدو بعيد المنال. لأنه لا يملك ببساطة المبلغ اللازم لأولى خطوات الهجرة.
من جهته، يؤكد نقيب المعلمين في غزة خالد المزين رفضه القاطع لـ"تسييس" قضية الرواتب. ويقول إن حكومة التوافق مطالبة بإدراج موظفي غزة ضمن السلم المالي والوظيفي للسلطة الفلسطينية. وكذلك الاعتراف بشرعيتهم، وصرف رواتبهم بشكل موازٍ للموظفين الآخرين.
ويشدد المزين على أنّ الخطوات الاحتجاجية التي بدأها المدرّسون أخيراً، ستتصاعد خلال الأيام المقبلة، إن لم يتم حل الأزمة، مشيراً إلى أنّ الأمر لم يعد يُحتمل بالنسبة لآلاف المدرّسين الذين لدى معظمهم عائلات والتزامات، ومن حقهم الحصول على مقابل لعملهم الذي لم يتوقّف يوماً، رغم كل الظروف.
في اليومين الأخيرين تفاءل المعلمون خيراً بعد تسلمهم جزءاً من مستحقاتهم المالية، لكن أزمتهم لم تُحل عملياً. ولن تمضي سوى أيام حتى تخرج المشكلة مجدداً. وفي ظل عدم إيجاد حل جذري ونهائي لقضية أرّقت الجميع في غزة، بدأ القلق يتسرّب إلى أهالي التلاميذ، الذين يخشون تبعات الأزمة على مستقبل أبنائهم.