لم يعد التوحّد "مجهولاً" كما كان في الماضي، غير أنّ كثيرين، ومن بينهم كوادر تربوية، ما زالوا غير مدركين لطبيعته وكيفية التعامل مع الأطفال المصابين به.
ما زال دمج الأطفال المصابين بطيف التوحّد في المؤسسات التربوية التونسية، العمومية والخاصة على حدّ سواء، دون المأمول، بحسب ما تؤكد الجمعيات والمؤسسات التي تُعنى بهؤلاء الأطفال وتعمل على دمجهم في المجتمع. ويعود السبب إلى النظرة إلى المصابين بالتوحّد، والرأي القائل بأنّ مكانهم هو في مؤسسات خاصة تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة وبالأشخاص ذوي الإعاقة وليس في المدارس "العادية" في تونس.
محمد عيسى، يبلغ من العمر ثمانية أعوام، مصاب بالتوحّد، ويعيش مع عائلته في العاصمة تونس. تخبر والدته "العربي الجديد"، بأنّهم واجهوا صعوبة في إلحاقه بإحدى المدارس الابتدائية العمومية، مؤكدة في الوقت نفسه أنّ "ابني يملك قدرات ذهنية كبيرة وقادر على استيعاب المواد، خصوصاً الرياضيات. وهو قادر على تركيب الجمل والكلمات، فيما يتحدّث بسلاسة، ولا يجد أيّ مشكلة في التعبير سواء بواسطة الكلمات أو الرسم. لكنّه يختلف عن سواه من الأطفال بعدم رغبته في المحادثة أو اللعب مع أقرانه، وهذا سبب رفض إلحاقه بالمدرسة الابتدائية". تضيف: "أنهينا إجراءات تسجيله في السنة الأولى في إحدى مدارس العاصمة والتحق هو بصفّه. لكن بعد أسابيع معدودة، دعيت إلى مقابلة المدير فأعلمني بضرورة إلحاق ابني بإحدى الجمعيات أو المراكز التي تعنى بدمج ذوي الاحتياجات الخاصة والأشخاص ذوي الإعاقة. استغربت ذلك، إذ إنّ حالة ابني ليست سيّئة إلى درجة تستوجب عدم قبوله في المدرسة".
وتشير والدة محمد إلى أنّها توجّهت إلى الإدارة الجهوية للتربية من دون جدوى، ذلك أن "أحداً لم يقدّم لي حلاً. لكنّ ظهوري الإعلامي عبر إحدى القنوات الخاصة ساعدني على إعادة ابني إلى مقاعد الدراسة، فقد تفهّم الكادر التربوي حالته مستنداً إلى تقرير طبي يشرحها". واليوم، يقصد محمد المدرسة كغيره من أقرانه، فيما يخضع من حين إلى آخر إلى جلسات مع اختصاصي نفسي في أحد المراكز الخاصة بالتوحّد. وعدم التزامه بالجلسات تعزوه والدته إلى "ارتفاع الكلفة، لكنّني أتّبع نصائح الاختصاصي، وقد شهدت تحسنّاً في سلوكه وتطوّراً في إدراكه للأشياء".
محمد عيسى نموذج يترجم الصعوبة التي يعانيها من هم في مثل حاله في ما يخصّ الاندماج في المؤسسات التربوية. وبينما أتت والدته بكل المحاولات اللازمة ليعود إلى مقاعد الدراسة، إلا أنّ عشرات آخرين لم يجدوا مقاعد لهم في الصفوف العادية، بالتالي فإنّ البديل هو المراكز الخاصة، علماً أنّ كلفتها باهظة.
أمين، طفل آخر مصاب بطيف التوحّد، وهو يبلغ من العمر سبعة أعوام، وقد رفضت إحدى المدارس الابتدائية استقباله. تقول والدته أمل لـ"العربي الجديد": "لم أكن أعي في البداية ما هو التوحّد. لكن حين بلغ ابني الثالثة من عمره ولم ينطق سوى بضع كلمات، قصدت عدداً من الاختصاصيين النفسيين الذين أكّدوا لي أنّه مصاب بطيف التوحّد، وأنّه قادر على الكلام شريطة الخضوع إلى جلسات علاجية منتظمة". تضيف أمل أنّ "أمين نجح من خلال العلاج في إتقان بعض الكلمات واكتساب القدرة على التعبير أحياناً. لكنّه في سنّ السادسة، كان لا يزال يعاني بعض الاضطرابات في الكلام، وهو السبب الذي جعل الكادر التربوي في المدرسة التي قصدناها يرفض استقباله، نظراً إلى حاجته إلى عناية خاصة في مركز متخصص، بحسب ما قيل لنا".
في هذا الإطار، يشير رئيس الجمعية التونسية لصعوبات واضطرابات التعلم، محمد سندي، إلى "صعوبة دمج الفئتَين بالمؤسسات التربوية في تونس، سواء العمومية منها أو الخاصة"، على الرغم من أنّ الأطفال المصابين بطيف التوحّد يختلفون عن الأطفال الذين يعانون صعوبات أو اضطرابات في التعلّم. ويتحدّث سندي لـ"العربي الجديد"، عن "ضرورة إدخال تعديلات على المناهج التربوية أو إيجاد مناهج خاصة مع تأهيل مساحات في المدارس لتقريبهم من أقرانهم وتسهيل دمجهم فيها ثمّ في المجتمع عموماً". ويشدّد على ضرورة "تكوين (تدريب) كادر تربوي قادر على التعامل مع هؤلاء الأطفال بفئتَيهم ومراعاة احتياجاتهم". ويوضح سندي أنّ "كثيرين من الأطفال المصابين بالتوحّد قد يسجّلون تطوّراً في مهاراتهم على صعد مختلفة من خلال دمجهم في وسط تربوي مع أقرانهم". ويشير سندي إلى "ضرورة أن تدرك العائلات ما هي حالات أبنائها تحديداً، لتسهل متابعتهم مبكراً وكذلك عملية دمجهم في المؤسسات التربوية والمجتمع، لا سيّما أنّ الأطفال المصابين بالتوحّد يميلون كثيراً إلى العزلة ويجدون صعوبة في التواصل مع الغير". يُذكر أنّ الجمعية التونسية لصعوبات واضطرابات التعلّم من بين أكثر الجمعيات التي تنظّم حملات توعية حول التوحّد في مختلف الجهات الداخلية، وخصوصاً أنّ العائلات بمعظمها لا تعي ما هو التوحّد وكيفيّة التمييز بينه وبين حالات أخرى.
من جهته، يؤكد رئيس جمعية فرح لإدماج أطفال التوحد وذوي الاحتياجات الخاصة، الناجي ساسي، لـ"العربي الجديد"، أنّ "ثمّة عدم وعي بين العائلات بمعظمها حول التوحّد وعلاماته وأعراضه". من هنا، كانت الجمعية التي يشرح ساسي أنّ "مؤسسيها هم أهالي أطفال مصابين بالتوحّد قرّروا تعريف المجتمع به والدفاع عن حقوق أبنائهم في التعليم والالتحاق بالمؤسسات التربوية. وقد واجهت الجمعية صعوبات عدّة لإقناع الكوادر التربوية بقبول هؤلاء الأطفال في الصفوف العادية". يضيف أنّ "الجمعية تلقى في الغالب تجاوباً إيجابياً من قبل وزارة التربية والإدارات الجهوية، لكنّ الكوادر التربوية ترفض التعامل مع الأطفال لعدم درايتها بطبيعة حالتهم أو طريقة التعامل معها". وفي السياق، نظمت جمعية فرح ندوة علمية للكوادر التربوية في منطقة بن عروس في مندوبية الجهوية للتربية شارك فيها نحو 200 مدرّس رغبوا في التعرّف على طبيعة التوحّد وكيفية التعامل معه. ويؤكد ساسي أنّ "الندوة لاقت تفاعلاً كبيراً وكانت نتائجها مهمة لجهة تغيّر النظرة إلى هؤلاء الأطفال ومعرفة سبل التعامل مع كلّ واحد منهم وكيفية دمجهم".