تبقى مسألة التعليم باللغة الأم، سواء بالنسبة إلى الأقليات المسلمة (كالعرب والأكراد) أو غير المسلمة في تركيا، من أكثر المسائل الخلافية في السياسة التركية. بعدما كان القانون العثماني يسمح للمواطنين غير المسلمين بفتح مدارس خاصة بهم، تميزت الجمهورية التركية عند نشأتها بسياسات قومية وعلمانية صارمة، أحدثت تغييرات كبيرة في مناهج التعليم العثمانية. بالتالي، ألغت تدريس الشريعة واللغتَين العربية والفارسية، وحوّلت التعليم كله إلى اللغة التركية بعد محاولات فاشلة لتنقية اللغة العثمانية من المفردات العربية والفارسية واستبدالها باشتقاقات تركية أو بكلمات ذات أصول لاتينية.
شهد عصر الجمهورية انخفاضاً كبيراً في عدد مدارس الأقليات غير مسلمة، وبعدما كان تعداد هذه المدارس يصل في عامَي 1913 و1914 إلى نحو 2596 من بينها 1245 مدرسة تابعة للروم (اليونانيون) و1084 مدرسة تابعة للأرمن و131 مدرسة يهودية (عبرية)، انخفض في أيامنا الحالية إلى 24 مدرسة في عموم تركيا. يُذكر أنّ أكثرها في مدينة إسطنبول، فيما تبلغ حصة الأرمن فيها 16 مدرسة بالإضافة إلى ستّ مدارس يونانية ومدرسة يهودية واحدة ومدرسة ابتدائية سريانية واحدة أنشئت في عام 2014 مع 48 تلميذاً، وذلك بعد نحو 86 عاماً على إغلاق آخر المدارس السريانية في مدينة ماردين.
إلى جانب ما يدّعيه قسم كبير من المواطنين الأتراك سواء من المتدينين أو الأتاتوركيين العلمانيين عن دور مشبوه لهذه المدارس ولهذه الأقليات في التآمر على الجمهورية والسلطنة العثمانية، تعاني هذه المدارس من مشاكل كثيرة. تبدأ من قلة عدد التلاميذ الذين يقصدونها، مروراً بأزمة الحصول على مناهج التعليم باللغة الأم، وصولاً إلى معاملة هذه المدارس على أنها مدارس خاصة وبالتالي عدم تلقيها أي دعم مالي من الحكومة التركية، على الرغم من أنها تعتمد على التبرعات التي تصل الطائفة ولا تتقاضى أي أقساط من تلاميذها.
بحسب القرار الذي أصدرته إدارة التعليم الخاص في وزارة التربية والتعليم التركية في تاريخ 28 يونيو/حزيران 2015، هي تشترط أن ينتسب إلى هذه المدارس فقط المواطنون الأتراك من أبناء الطائفة التي تنتمي إليها المدرسة. بالتالي، يمنع المسلمون من التسجيل في هذه المدارس، وأيضاً من هم من أبناء الاقليات الذين اضطروا إلى تغيير دينهم في سجلات النفوس في قترة مبكرة من عمر الجمهورية خوفاً من التمييز العنصري ضدهم. كذلك يحرم القرار أبناء الطائفة من غير الأتراك من التسجيل في هذه المدارس إلا بصفة "تلاميذ ضيوف"، أي أنهم لن يحصلوا على أي شهادة عند إتمامهم الدراسة فيها.
بينما يرتفع تعداد التلاميذ والمدارس في عموم تركيا، ينخفض تعداد تلاميذ مدارس الأقليات مع الوقت لأسباب كثيرة أبرزها الهجرة الكبيرة لأبناء الأقليات غير المسلمة وأيضاً بسبب تجنّب أبناء هذه الأقليات إرسال أبنائهم إلى هذه المدارس لأسباب عديدة، في مقدمتها خوفهم من التعرض إلى تمييز عنصري بحقهم في الوظائف. يُذكر أنّ في العام الدراسي 2013-2014، لم يتجاوز تعداد التلاميذ في مدارس الأرمن 3137 تلميذاً، منهم 67 مواطناً من أرمينيا. أما مدارس الروم، فلم يتجاوز تعداد تلاميذها 230 تلميذاً بينهم مواطنون يونانيون، فيما وصل تعداد المدارس اليهودية إلى 688 تلميذاً.
ياني دميرجي أوغلو مدير ثانوية زوغرافيون اليونانية في إسطنبول، يقول: "على الرغم من أحداث 6-7 سبتمبر/أيلول 1955، إلا أنّ اليونانيين قاوموا كثيراً للبقاء في مدينة إسطنبول. وبعدما كانت المدرسة تعج بالتلاميذ اليونانيين الأتراك حتى عام 1955، لم يعد يرتادها إلا 55 تلميذاً عام 1996، لينخفض العدد إلى 42 اليوم. وعلى الرغم من أن أعداد التلاميذ في انخفاض مستمر، إلا أنّ العدد بدأ يثبت". يضيف: "ظننا أن قدوم بعض العائلات اليونانية إلى تركيا دعم كبير لمدارسنا، إلا أن هذه العائلات تتجنب تسجيل أبنائها في المدرسة، لأنهم سوف يكونون في وضعية التلميذ الضيف، ولن يحصلوا على شهادة بالتالي".
من جهتها، تؤكد المنسقة العامة للجنة التعليم بين جمعيات الأقليات التركية، نورهان بالاك أوغلو، أنّ "خطوة وزارة التعليم الأخيرة المتعلقة بمنع غير المقيّدين في النفوس على أنهم أبناء طوائف مسيحية من التسجيل في هذه المدارس، هي خطوة سيئة لن تؤدي إلا إلى مزيد من التضييق على مدارس الأقليات". تقول: "لقد تأثر أبناء الطائفة مثل الأتراك الباقين بتدهور بعض قطاعات الاقتصاد، الأمر الذي أدى إلى انخفاض التبرعات التي كانت تتلقاها مدارسنا، والذي ضاعف من التحديات الاقتصادية لهذه المدارس التي لا تتقاضى أي أقساط من التلاميذ". تضيف: "إلى ذلك، ومثل سوانا من مدارس الأقليات، نحن كأرمن نعاني أيضاً من وضعية التلميذ الأجنبي التي تحرم كثيرين من أبناء الطائفة من غير الأتراك من التسجيل في مدارسنا. في النهاية، بقاء أي مدرسة على قيد الحياة يحتاج إلى حد أدنى من عدد التلاميذ".
عن المناهج، تقول بالاك أوغلو: "مع أننا نحاول الحصول على المناهج من أرمينيا، تبقى هذه المناهج غير صالحة لأرمن الغرب (أي المقيمين في تركيا) تحديداً لجهة التركيز على تاريخ جمهورية أرمينيا وجغرافيتها، وليس على تاريخ المناطق التي كانت تقطنها أكثرية أرمنية في الشرق التركي قبل أحداث عام 1915. وهذه أمور نراها في صلب عملنا وهو التشبث بالبقاء هنا والحفاظ على وجودنا التاريخي في تركيا".
نورجان كايا هي منسقة تركيا لدى مجموعة حقوق الأقليات الدولية (منظمة مجتمع مدني دولية)، تقول إنّ مدارس الأقليات ليست مدارس خاصة ولا مدارس أجنبية، إلا أنّ القانون لا يحدد لها أي وضعية خاصة تتيح لها تلقي الدعم من الدولة. فوزارة التعليم لا تدفع إلا رواتب نائب المدير الذي تعينه ومدرّسي مواد التاريخ والجغرافية واللغة التركية والعلوم الاجتماعية التي يشترط تدريسها باللغة التركية وبحسب المناهج الحكومية. وفي حالة مدرّسي اللغة اليونانية، يُنتدب هؤلاء من اليونان في إطار اتفاقية تعاون ثقافي بين الجانبين، فيما تتولى الحكومة اليونانية دفع رواتبهم. تضيف كايا أنّ "الحكومة التركية منذ إنشاء الجمهورية، تتعامل مع الأقليات كأنهم رعايا أجانب وليس بصفتهم مواطنين، تحديداً اليونانيين منهم". وتتابع أنّ "وزارة التربية والتعليم التركية تفرض على هذه المدارس مساعد مدير معيّناً من قبلها للإشراف على المدرسة. كأنّ المدرسة مركز استخبارات أجنبي. إلى ذلك، تحدد الوزارة مدرسي اللغة التركية الذين تفرزهم لهذه المدارس".
وبخصوص المناهج والكادر التدريسي، تؤكد كايا أن "هذه المدارس تواجه صعوبات كثيرة لجهة تأمين كوادر ومناهج، تحديداً بالنسبة إلى مدرّسي اللغة الأرمنية والعبرية، إذ لا كليات أدب أرمني إلا في جامعة كيليس وهي تفتقر إلى الكوادر وكذلك الأمر بالنسبة إلى العبرية. أيضاً، لا إدارة في الوزارة تُعنى في ترجمة المناهج للغات هذه الأقليات الأم، بالتالي على المدارس أن تترجم المناهج التي تحصل عليها من اليونان أو أرمينيا إلى اللغة التركية ويصدّق عليها كاتب العدال قبل أن تقدّمها إلى إدارة التربية والتعليم في الوزارة لتصادق عليها. كل هذا على حساب المدرسة، التي عليها أن تؤمن الكتب للتلاميذ من دون أي مساعدة من الوزارة التي تقدم الكتب إلى المدارس الحكومية مجاناً". وتلفت كايا إلى أنّ "الكتب التي تطبعها الدولة التركية لا تحتوي على أي إشارة إلى تاريخ هذه الأقليات وثقافتها، بل تمتلئ بخطاب عنصري ضدها، تحديداً ضدّ الأرمن والروم".