نجحت "العربي الجديد" في أن تكون أولى الوسائل الإعلاميّة التي تدخل مخيّماً لطالبي اللجوء في الدنمارك، حيث يترقّب المهاجرون النظر في أوضاعهم قبل منحهم حقّ اللجوء. هنا، الوضع مأساوي.
بغضّ النظر عن الخلفية القومية أو تلك الثقافية لهؤلاء الذين تحدّثت إليهم "العربي الجديد"، أولى الوسائل الإعلامية التي دخلت مخيّمات المهاجرين طالبي اللجوء في الدنمارك، إلا أنهم يجمعون على أن المخيّمات ليست سوى مراكز للترحيل وإيصال طالبي اللجوء إلى حالة من اليأس والإحباط لدرجة أن يطالبوا بأنفسهم بترحيلهم. كذلك يشيرون إلى أمراض جلدية تنتشر بينهم. أما بعض الدنماركيين، فيصفون هذا النوع من المخيمات مع قوانينه الصارمة والمشددة بأنه "خرق لالتزام الدنمارك بمواثيق ومعاهدات دولية". يُذكر أن بعض الدنماركيين ووسط موجة التشدد السارية، صرّحوا بأن "على هؤلاء الامتنان لنجاتهم من الحرب وإيجاد خيمة تؤويهم".
شكاوى كثيرة يوردها هؤلاء المهاجرون وطالبو اللجوء باختلاف جنسياتهم، في حين يصب كثيرون جام غضبهم على حكومات بلادهم التي أوصلتهم إلى ما بلغوه. بحسب هؤلاء الذين تحدّثوا أمام الكاميرا، يتوجّب عليهم الانتظار عاماً كاملاً قبل إجراء المقابلة التي من شأنها تحديد مصيرهم. إلى ذلك لا تسمح لهم القوانين الجديدة بلمّ شمل أسرهم قبل مرور ثلاث أو أربع سنوات على منحهم حق اللجوء. وخلال الانتظار الطويل، بعضهم لا يصدق أنه في أحد البلدان الاسكندنافية، خصوصاً عندما تؤخذ منهم أموالهم وكل مقتنياتهم الثمينة، في مقابل أن تخصص لهم السلطات 15 دولاراً أميركياً كل أسبوعين. وهو مبلغ لا يكفي للتنقل بين مخيّم ومدينة أو لتناول فنجان قهوة أو شراء علبة سجائر.
في المخيّمات التي بدأت الدنمارك تشيّدها في نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، وليس بعيداً عن شواطئ الأطلسي في شمال غرب البلاد، طفت بعض الخيم بمياه أمطار غزيرة هطلت قبل نحو أسبوعين. وهو ما اضطر السلطات إلى نقل طالبي اللجوء إلى قاعة رياضية في إحدى مدارس مدينة تيستد، ريثما تهدأ العاصفة. ويشير متعطشون إلى الحديث مع أي وسيلة إعلامية، إلى أن "العربي الجديد" هي الوحيدة التي دخلت إلى مخيمهم، "فالمصورون الصحافيون الدنماركيون التقطوا خمس صور لنا قبل أن يمضوا في طريقهم من دون أن يكترثوا بنا أو يسألونا عما يجري".
عندما اجتازت "العربي الجديد" مسافة طويلة استلزمت نحو عشر ساعات، لم تكن واثقة من أنها ستتمكن من دخول ذلك المخيّم البعيد عن أعين المارة. هو يقع خلف أبنية وأشجار وتحيط به أسوار حديدية، أما بوابته الكبيرة فمفتوحة. يُذكر أن موقع المخيّم يتبع إلى مركز طوارئ دنماركي مهمته التدخل في حالات الكوارث الطبيعية.
في تلك الخيم، ينام طالبو لجوء من رجال تختلف جنسياتهم، في أسرّة متلاصقة تفصل بينها ألواح خشبية لا يزيد ارتفاعها عن 50 سنتمتراً. أما العائلات وهي قلة قليلة، فتشغل غرفاً في براكسات. هنا، في هذه المساحة التي لا تتعدّى ألفَي متر مربّع، يعيش ما لا يقل عن 450 شخصاً، فيما تزداد الأعداد يومياً. وإلى جانب تلك الخيم، ثمّة قاعة كبيرة يبدو أنها قُسّمت على عجل بألواح خشبية مضغوطة وخزائن حديدية وضعت فيها أسرّة من طبقتَين أشبه بتلك المتوفّرة في السجون. الخصوصية مفقودة في هذا المكان، ويؤكد كميل وهو إيراني كردي أن "هذا أشبه بالسجون الأميركية التي نشاهدها في الأفلام الوثائقية. لو كنت أعلم أن هذه هي الدنمارك، لما أتيت".
ويسأل هؤلاء عبر "العربي الجديد" عن السبب الذي يدعو الدنمارك إلى "معاملتنا بهذا الشكل. كأننا مجرمون أو مشتبه فينا، ولسنا طالبي حماية ولجوء"، بحسب ما يقول مصطفى الآتي من العراق. يضيف: "نحن تركنا بلدنا براً وبحراً، وخاطرنا، وبعضنا استدان النقود للوصول. في الحقيقة، نحن مصدومون. كيف لبلد يدّعي احترام الإنسان، أن يعاملنا بمثل هذا الإهمال؟".
وكان الجميع قد أُبلِغ بحسب ما يوضح غيث، وهو عراقيّ، "بضرورة الانتظار عاماً كاملاً في هذه الخيم، ريثما نحصل على الموعد الأول للمقابلة الأولى التي يتقرر بعدها منحنا اللجوء أم لا. وإذا حصل ذلك وحصلنا على إقامة، فإن تلك تكون مؤقتة لمدة عام، وبعدها علينا الانتظار ثلاث سنوات قبل التقدّم بطلب لم الشمل". يضيف غيث وهو يشير إلى مجموعة من مواطنيه حوله، "لم يكن أمامنا سوى الخروج من العراق بسبب الوضع البائس هناك".
في هذه الخيم التي فتح قاطنوها قلوبهم لـ "العربي الجديد"، يمكن تلمّس اليأس والغضب في آن. يقول أحدهم ويُعرف بلقب "ماميستو"، إن "هذا أشبه بمخيمات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية". يضيف هذا المهندس الإيراني المطلوب من قبل سلطات بلاده، أن "الدنماركيين رموا بنا هنا من دون أن يعرفوا شيئاً عنا أو عن قضايانا. يظنون أننا جئنا كلنا كلاجئين اقتصاديين. بعد 25 يوماً على وجودي في هذا المخيّم، الخدعة واضحة. هم بدأوا بأخذ ما نملكه من مال ومقتنيات ثمينة". ويتابع: "دعني أخبرك أن الأكل مجاناً والقهوة كذلك. لكن إن رغبت في حبة شوكولاتة أو علبة سجائر، لن تقدر على ابتياعها. كذلك لا يمكنك استقلال الحافلة حتى إلى المدينة. هل تدري لماذا؟ لأنهم بعد أخذ كل ممتلكات طالب اللجوء، يعطونه كل أسبوعَين 99 كروناً دنماركياً (نحو 15 دولاراً) لا تكفي لشراء علبة سجائر وزجاجة عصير أو الذهاب إلى الحلاق. حلاقة الشعر في أرخص الصالونات 140 كروناً (نحو 21 دولاراً)".
اقرأ أيضاً: التحول إلى المسيحية لنيل حق اللجوء بالدنمارك
يتفق حازم وأحمد العراقيان مع عدي السوري على أن المسألة "تهدف إلى بث اليأس فينا، من قبل حكومة يمينية. هكذا يستسلم اللاجئ ويغادر. وبالفعل وصل أحد الإيرانيين إلى حالة هيستيرية نتيجة المعاناة هنا بعد أسبوعين من وصوله. فطالب بترحيله إلى إيران. اقتادوه مخفوراً من هنا ورحّلوه".
ويشير طالبو اللجوء هنا إلى "موت نفسيّ بطيء، في ظل عزلة عن المحيط وعدم توفّر إمكانية اقتصادية للتنقل بين المدن أو حتى الخروج إلى أقربها". بالنسبة إليهم، "التسكع بالقرب من المياه وبين الخيم، إن سمحت الأحوال الجوية بذلك، هو أقصى ما يمكن القيام به لقتل الوقت".
إلى ذلك، وعندما بدأ بعض طالبي اللجوء بخلع ملابسهم حتى يؤكدوا لـ "العربي الجديد" إصاباتهم بالأمراض الجلدية في المخيّم، تدخّل رجال الأمن الذين كانوا يتجوّلون في المكان بلباسهم الأسود، وطلبوا منا الاستعجال "لأن الإدارة طلبت ذلك"، مع ابتسامة. في الأعلى، كانت قد نصبت كاميرات لمراقبة المكان. يبدو أنه لم يرق للمعنيّين نقل واقع ما يعانيه هؤلاء، خصوصاً اعتراف شاب كردي عراقي بأنه مصاب بالجرب. وكان محمد اليمني قد اندفع صوبنا أيضاً وهو يشير إلى البثور التي انتشرت في كل أنحاء جسده ووجهه أيضاً، شاكياً من أنه مصاب بحساسية من نوع خاص تحتاج إلى مجرّد حقنة محدّدة، لكن الطبيب اكتفى بوصف مسكّن له. أما آخرون فيتحدثون عن أمراض تنفسية إضافة إلى تلك الجلديّة، في غياب النظافة واكتظاظ المكان من دون توفّر تهوية، خصوصاً في الخيم التي يمنعهم البرد القارس من تركها مفتوحة.
من جهته، يخبر أحمد العراقي بتأثر كبير "تركت زوجتي حاملاً في البلاد"، سائلاً "كيف أصارحها الآن بأنه سوف تمرّ سنوات قبل أن ألتقيها مجدداً وأرى ابني البكر؟". ويردّد مع آخرين: "يجب أن يعرف العالم كيف نعامَل في دولة ديمقراطية راقية، حتى نستسلم ونطالب بترحيلنا. لو كان بيدنا إلغاء بصمة دبلن، لكنا رحلنا إلى بلد آخر. يبدو أن الوقت لم يحن لتبدأ عمليات الترحيل الجماعي، لكننا نشعر بأن الأمر يسير في هذا الاتجاه".
كان المساء قد حلّ حين تركت "العربي الجديد" المخيّم، فالتقينا بعض الدنماركيين في المنطقة. بعضهم تحدّث شريطة عدم تصويره، أما بعض آخر فرفض التعليق عن رأيه بالمخيّم. في العموم قالوا إنهم لم يروه من الداخل بل من خلف السياج. "لا بدّ من أنهم سعيدون بعدما تخلصوا من الحرب ونجوا منها. هم يعيشون اليوم بأمان وحماية".
لكن آخرين كان لهم رأي مغاير. مارتن واحد منهم، يقول: "أشعر بالعار. على حكومة الدنمارك أن تشعر بالعار. نحن لسنا بلداً فاشياً ولا من العالم الثالث حتى نعامل البشر بعدم احترام. أدرك أن ثمّة أزمة إيواء، لكنني متأكد من أن الأمر قد يحلّ باللجوء إلى بعض أماكن مهجورة كثكنات عسكرية وغيرها". من جهتها تقول نانسي السبعينية: "أخشى من أن يعيد التاريخ نفسه مأساوياً". حاولنا الاستفسار عن قصدها، لكنها اكتفت بـ "عليكم بأنفسكم اكتشاف ما أعنيه".
اقرأ أيضاً: دخول اللاجئين إلى الدنمارك بات أكثر صعوبة