تتجه الأوضاع في شرق سورية إلى مزيد من التأزم، مع بروز تطورات من شأنها نقل الصراع إلى مستويات أكثر خطورة، في ظل تخوّف روسي من اتفاق فصيل كردي، تدعمه الولايات المتحدة الأميركية، مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، يتيح لمسلحي التنظيم الخروج بشكل آمن من الرقة إلى قلب البادية السورية، والتي باتت منطقة نفوذ روسي إيراني مشترك. وعلى الرغم من نفي مصادر كردية للتخوف الروسي، إلا أن المعطيات تشير إلى أن التنظيم على وشك الانهيار في الرقة، ولا سبيل أمام مسلحيه إلا الخروج جنوباً إلى البادية، وشرقاً إلى محافظة دير الزور. ومن المرجح أن تتحول البادية السورية إلى مسرح صراع إرادات في المرحلة المقبلة، خصوصاً بين الروس الطامحين إلى وضع يدهم على مستقبل سورية، وبين الأميركيين الساعين إلى إفشال المخططات الروسية والسيطرة على الشرق السوري الغني بالثروات، فضلاً عن موقعه الجغرافي الذي يتيح لواشنطن التحكم ببلدان عدة من خلال وجود دائم فيه.
ونقلت وسائل إعلام روسية، أمس السبت، عن مصادر في وزارة الدفاع الروسية تأكيدها حدوث اتفاق بين الوحدات الكردية، وهي القوة الضاربة في "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، وبين قيادات في "داعش" لفتح ممر آمن لمسلحي التنظيم للخروج من الرقة باتجاه تدمر، مشيرة إلى أن موسكو تعارض هذا التوجه بالمطلق. وأكدت المصادر أن الطائرات الروسية استهدفت، الخميس الماضي، قافلة لمقاتلي التنظيم، مؤلفة من 39 "بيك آب"، محملة بالأسلحة، كانت في طريقها من الرقة إلى تدمر، مشيرة إلى أن "الطائرات الروسية دمرت 32 شاحنة صغيرة مزودة بمدافع رشاشة ثقيلة، وقتلت أكثر من 120 من مسلحي التنظيم". كذلك أكدت وزارة الدفاع الروسية أنها كثفت عمليات المراقبة على الطرق المحتملة لخروج مسلحي "داعش" من الرقة، مشيرة إلى أن طائراتها المسيرة عن بعد "تعمل على مدار الساعة لمراقبة الوضع"، وأن "أي محاولات لمسلحي داعش للتحرك باتجاه تدمر، سيتم التصدي لها بحزم"، وفق الوزارة.
وتعتبر روسيا مدينة تدمر ومحيطها منطقة نفوذ بارزة لها في قلب سورية. ويبدو أنها تخشى من اتفاق مع "داعش"، يحصل على رضى أميركي، من الممكن أن يزيد من متاعبها، ويعرض حياة جنودها في البادية للخطر. وتأتي التصريحات الروسية في خضم صدام مسلح في البادية السورية بين قوات تتبع للمعارضة السورية، مدعومة من التحالف الدولي، وبين مليشيات إيرانية تحاول تخطي الخطوط الحمراء الأميركية والوصول إلى نقطة التنف الحدودية مع العراق، في إطار استراتيجية إيران الهادفة إلى ربط طهران بدمشق برياً. وكان "العربي الجديد" قد أشار، منتصف مايو/ أيار الحالي، وفق مصادر مطلعة، إلى أن معركة انتزاع السيطرة على مدينة الرقة "لن تطول"، بسبب عدم قدرة التنظيم على الصمود، رغم التحصينات الكبيرة التي أقامها على مدى سنوات وجوده فيها. وأشارت المصادر إلى أن طبيعة الرقة الجغرافية لا تساعد مقاتلي "داعش" على المناورة العسكرية، بما أن مدينة الرقة "منبسطة، ولا توجد فيها تضاريس تساعد على التحصن الطويل داخلها"، فضلاً عن أن وجود عشرات آلاف المدنيين في المدينة سيكون عبئاً كبيراً على التنظيم، خصوصاً إذا تم تطويق المدينة وعزلها بشكل كامل عن دير الزور. ورجحت المصادر أن يهرب عناصر التنظيم شرقاً باتجاه دير الزور، حيث يملكون مركزاً مهماً وهو مدينة الميادين، شرقي مدينة دير الزور، إضافة الى مدينة البوكمال الحدودية المقابلة لمدينة القائم العراقية، المعقل البارز للتنظيم غربي العراق.
ونفى مستشار الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي، سيهانوك ديبو، حصول أي اتفاق مع تنظيم "داعش" لتأمين ممر آمن لمسلحيه للخروج من الرقة إلى تدمر. وقال، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الوقائع التي حدثت، ووقائع تجري، ووقائع ستحدث تنفي ما يتم تناقله. وأشار إلى أن "الاتحاد الديمقراطي"، والذي يتخذ من وحدات "حماية الشعب" ذراعاً عسكرية له، "يتمتع بعلاقة دبلوماسية جيدة مع روسيا"، لافتاً إلى أن الأخيرة "كانت السبّاقة في افتتاح أول مكتب تمثيلي للإدارة الذاتية في موسكو، علاوة على مكتب لحزبنا هناك". وأضاف "علاقتنا جيدة مع روسيا، ونحرص أن تكون متقدمة بما يخدم محاربة الإرهاب، وتحقيق التغيير الديمقراطي في سورية"، وفق ديبو. من جانبه، نفى المتحدث باسم وحدات "حماية الشعب" الكردية، نوري محمود، ما أوردته المصادر الروسية. ووصف، في حديث مع "العربي الجديد"، ما قيل عن اتفاق مع التنظيم للخروج من الرقة بأنه "اتهامات سافرة"، مشدداً على أنها عارية عن الصحة. وأشار إلى أن "قسد" توجه ضربات مميتة إلى مسلحي "داعش"، لافتاً إلى أن قوة التنظيم بدأت تتقلص في سورية.
ولا تزال "قوات سورية الديمقراطية" تزحف باتجاه مدينة الرقة من محاور عدة. وهي طردت التنظيم من قرى وبلدات مهمة، خصوصاً في غرب الرقة، إذ سيطرت منذ أيام على قرية السلحبية، كبرى القرى شمال نهر الفرات، إضافة إلى قرية كديران الواقعة شمال سد "البعث"، وهو ثالث أكبر السدود المائية في سورية. ولم تتأكد بعد سيطرة "سورية الديمقراطية" عليه، إذ لم تعلن بشكل رسمي أنها وضعت يدها على السد، واكتفت بنشر صور توضح وجود مقاتليها قربه. وتعتبر السيطرة على السد دليلاً إضافياً على بدء انهيار التنظيم غربي الرقة، كما تعد مدخلاً كبيراً لتقدم "قوات سورية الديمقراطية" شرقاً وصولاً إلى قرية كسرة شيخ الجمعة التي تقع جنوب مدينة الرقة، ما يعني إحكام الطوق عليها بشكل كامل. وحاول عناصر التنظيم شن أكثر من هجوم على "قسد"، إلا أن الأخيرة أكدت أنها أفشلت محاولات وقف زحفها باتجاه الرقة.
وتعتقد مصادر في المعارضة السورية المسلحة أن هناك نحو 300 مقاتل تابع للتنظيم داخل مدينة الرقة، مشيرة، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن التنظيم "يتخبّط في الرقة"، نتيجة تقدم "قوات سورية الديمقراطية" باتجاه المدينة، ما يشير إلى إمكانية حسم معركة السيطرة على المدينة بشكل أسرع مما هو متوقع. وفي السياق، مددت "قسد" إلى نهاية مايو/ أيار الحالي مهلة أعلنت عنها منتصف الشهر الحالي لمسلحي التنظيم من أبناء محافظة الرقة "مهما كانت صفتهم" لتسليم أنفسهم لها "لتسوية أوضاعهم، وحماية عائلاتهم وذويهم وأهلهم". وأكدت أنها تهدف إلى "حقن الدماء، وحماية النسيج المجتمعي"، داعية مسلحي التنظيم "للاستفادة من هذه الفرصة"، وفق بيان صدر عنها. ومن المتوقع أن تحتدم المعارك خلال شهر رمضان في محيط الرقة، والتي نزح عنها عدد كبير السكان، منذ بدأت "قسد"، وقوات "النخبة"، والتي تتبع إلى الشيخ القبلي، أحمد الجربا، تقترب من أبواب المدينة، والتي تعد أبرز معقل للتنظيم في سورية، وفقدانه لها يعد بداية نهايته في شرق سورية.
من جهة ثانية، أعلن الكرملين، أمس السبت، أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بحث هاتفياً مع نظيريه الإيراني حسن روحاني، والتركي رجب طيب أردوغان، مستجدات الوضع في سورية وآفاق التسوية السياسية هناك. وأكد بوتين وروحاني، بحسب بيان الكرملين، أهمية تفعيل الجهود المشتركة لدعم التسوية السياسية الدبلوماسية في سورية، بما في ذلك في إطار عملية أستانة ومن خلال تطبيق المذكرة حول إنشاء مناطق تخفيف التصعيد في البلاد. واتفق بوتين وأردوغان على زيادة تنسيق الجهود على مختلف المستويات بهدف التوصل إلى التسوية في سورية. وأضاف الكرملين أن "الرئيسين شددا على أهمية الإسراع في تحقيق التوافق حول الجوانب العملية لتطبيق المذكرة بشأن مناطق تخفيف التصعيد، ما سيتيح تعزيز نظام وقف إطلاق النار ورفع فعالية المفاوضات بين الأطراف السورية في جنيف وأستانة".