في الجزائر، ثمّة رجال ونساء حسموا أمرهم وقرّروا الخروج من أميّتهم، والمضيّ قدماً في تعليمهم. وهؤلاء بمعظمهم، لا يتمكّنون من ذلك، لولا الدعم الذي يقدّمه لهم أفراد عائلاتهم... الأبناء في معظم الأحيان.
قبل 17 عاماً، لم تكن الجزائرية عتيقة بولحبال البالغة من العمر 65 عاماً تفكّر في دخول إحدى قاعات المحاضرات في الجامعة، ولا أن يأتي يوم تعلو فيه الزغاريد، ليس فرحاً بنجاح أحد الأبناء، بل لفرح الأبناء بنجاحها هي. هو نجاح تلا نجاحات أخرى مذ التحقت بصفوف محو الأميّة قبل أن تجتاز امتحانات شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) في عام 2015 وتتابع دراستها الجامعية في البلاد عبر المراسلة. وتؤكد عتيقة أنّ "فرحة التعلم لا تضاهيها فرحة"، معيدة السبب في ذلك إلى ابنها الأصغر الذي بدأت معه تتعلّم الحروف.
وعتيقة أمّ لستّة أولاد في بلدية بوعرفة التابعة لولاية البليدة، شمالي الجزائر، اتّخذت قراراً في "لحظة تاريخية" عندما اصطحبت ابنها البالغ من العمر ستّة أعوام إلى المدرسة في عام 2002، أمّا اليوم فهي في السنة الأولى من مرحلة الماجستير في تخصص علم النفس. صحيح أنّها تتابع دراستها عبر المراسلة، غير أنّ ذلك لا يمنعها من الالتحاق بالمحاضرات في حرم الجامعة، كلّما سنحت لها الفرصة. وهي كانت قد خرجت من أميّتها من خلال صفوف محو الأمية في البليدة التي تشرف عليها الحكومة الجزائرية ويقدّمها متخرّجون جامعيون، علماً أنّ كلّ شخص كان يستفيد من تلك الدروس مرّتَين أو ثلاث مرّات في الأسبوع. لكنّها بحسب ما تقول لم تكن تكتفي بذلك، "بل كنت أتابع درسي في البيت، وكذلك في المسجد أيام الجمعة، فتعلّقت بالتعلّم وحفظت القرآن". تضيف أنّه "على مدى 12 عاماً، تابعت التعليم الابتدائي ثمّ المتوسط فالثانوي بمساعدة ابني الأكبر كريم"، مشيرة إلى أنّ "أكبر أحلامي كان يُختصر بنجاح أبنائي. هذا ما كنت أحرص عليه وأعمل من أجله قبل أن أحسم أمري".
قصّة عتيقة واحدة من قصص النجاح والتغلّب على الأمية والأحلام الكبرى، كما هي قصّة محمد لعجالي من منطقة الجلفة (شمال وسط) البالغ من العمر 54 عاماً. هو كان يربّي الأغنام في المنطقة السهبية، غير أنّه كان يتطلع دوماً إلى "القلم والورقة" مثلما يقول. ويخبر: "كان الأمر صعباً عليّ في البداية، وكان كثيرون يهزؤون بي لأنّني في سنّ كبيرة وأبحث عن الكتب والدراسة، مستخدمين المثل الشعبي: كي شاب علقولو الحجاب. لكنّ ذلك لم يثنني عن عزيمتي، وواصلت البحث عن مكان أتعلّم فيه بأحد صفوف محو الأمية، ونجحت. ثمّ رحت أتردّد ما بين استكمال الدروس وبين الانقطاع، وفي النهاية تمكّنت من تعلّم الحروف ثمّ القراءة، وصرت أحمل معي كتاباً في كلّ مكان أقصده لأقرأ أكثر فأتعلّم أكثر". يضيف: "حلمي اليوم هو المضيّ قدماً في التعلّم إلى حين نيل شهادات عليا".
من جهته، يخبر أمين حيوني "العربي الجديد" أنّ والدته الستينية "وصلت إلى الجامعة بعدما تدرّجت في التعلّم مستندة إلى تشجيعنا... نحن أولادها". يضيف: "في البداية، كانت تحاول التهرّب متحجّجة بالبيت ومتاعب الأبناء، لكن مع الوقت بدأت تستمتع في حمل الدروس إلى المنزل ومذاكرتها معنا"، مشيراً إلى أنّ "حلمها كان أن تصير مدرّسة وتقدّم المعرفة إلى الأجيال المقبلة، إلى جانب رغبتها الكبيرة في أن تصير مصمّمة أزياء عبر الدخول إلى المعهد العالي للفنون في العاصمة الجزائر".
وتُعَدّ هذه القصص ملهمة لكثيرين فوّتوا فرصة التعلّم في الصغر، لسبب أو لآخر، وهي تشجّعهم على المبادرة والالتحاق بصفوف محو الأمية وبالتعليم اللاحق، خصوصاً مع تحسّن ظروف التعليم في مدن جزائرية كثيرة. في المقابل، يؤدّي حاملو الشهادات من المتطوّعين دوراً أساسياً في تلك العملية التعليمية، فهم يخصّصون وقتاً طويلاً من أجل مساعدة كثيرين على محو أميتهم، بالإضافة إلى تعليم كبار السنّ في الأحياء، خصوصاً في المناطق الداخلية والولايات الجنوبية. بالنسبة إلى المتطوّع عبد العالي يونسي، فإنّ "ما نقوم به هو في سبيل نشر العلم وتشجيع الناس عليه، إذ لا حدود للتعلّم، سواء أكانت جغرافية أم زمانية مرتبطة بالسنّ".
منذ 12 عاماً، تطبّق الجزائر قوانين عدّة لتوظيف مئات من حملة الشهادات الجامعية في إطار مخطّطها لمحو الأمية في البلاد، مع استراتيجية عنوانها:" قسم محو الأمية في كل قرية". ويقدّر الديوان الوطني لمحو الأمية الوطنية عدد المنتسبين بأكثر من 100 ألف جزائري اليوم، من خلال جمعيات "أقرأ لمحو الأمية وتعليم الكبار"، التي ينشط معظمها في المناطق الجبلية والقرى والدواوير عبر 48 ولاية جزائرية. يُذكر أنّ السلطات الجزائرية تلزم قانوناً كلّ الأسر بتسجيل الأبناء في المدارس، خصوصاً في المناطق النائية حيث يُسجَّل نقص في الوعي تجاه هذا الموضوع، وهي تفرض عقوبات على كل "من يحرم ابنه أو ابنته التعلّم والتسجيل في المدرسة".