محمود درويش بين قضيتين..

18 مارس 2019

محمود درويش.. إرث باذخ (1/1/2005/Getty)

+ الخط -
 
لم أسمع خبراً سعيداً، في هذه الفترة الصعبة في حياتي، مثل الشرف الذي أسبغته علي مؤسسة محمود درويش، بوضعها هذا الوسام المرموق على صدري، وفي طليعة سيرتي الذاتية، فشكراً جزيلاً.
ليس صعباً التحدّث عن هذه الجائزة، يكفي أنها تحمل اسم محمود درويش الذي يختصر، في اسمه وشعره، كل معاني الأرض والإنسان والجمال والحياة والحرية غير المشروطة.
مؤكّدٌ أن قمح فلسطين وزيتها شكلا لحم محمود درويش ودمه وقوامه، وربما هناك مورثاتٌ أخرى لم يرها العابرون، في الكلمات العابرة. هذان عنصران مقدّسان يشكلان... في بلاد الفِلاحة والقداسة عكس شعوب كثيرة في العالم النسبة العظمى من الجسد الإنساني.
لكن الفتى الذي اسمه محمود سرعان ما راح يكدح لرد جميل القمح والزيت. كان اسم فلسطين يُراد إسقاطه في نسيان عميق، فاستعاده، وكان صوتُها مخنوقا، فأعطاها صوتَه الذي لم يعد ممكنا فصله عن تلك البلاد.
كان يمكن لمحمود درويش أن يطمئن إلى منجزه الشعري الذي صنع شهرته الجماهيرية، ولكنه لم يفعل. كان يمكن له أن يكتفي بفلسطين رافعةً لشعره ولكنه، أيضا، لم يفعل.
لماذا؟ لأنه شاعر حقيقي. منذ البدء كان محمود درويش شاعرا حقيقيا. كان يمكن تمييزه، بلا صعوبة، وسط كوكبة شعراء فلسطين المحتلة عام 1948 الذين وصلت إلينا أصواتهم في أواسط ستينات القرن الماضي، وأعطاها التلقي العربي المباغت بهؤلاء الشعراء اسم "شعر المقاومة". كان واضحا، مذاك، تفلّت شعر درويش نحو التحقق الفني، إلى جانب التحقق "الوظيفي"، بل ربما قبل هذا الأخير.
من يقرأ شعره في طور "المقاومة"، قبل خروجه العاصف من فلسطين المحتلة، والتحاقه بمنظمة التحرير الفلسطينية حاسما، مرة واحدة وأخيرة، التباس الهوية، سيقع على شاعر ذي نهم جمالي واضح. ورغم ترابط السياسي والفني في حياته وشعره، بدا جليا، لمن يُحسن القراءة، حرص درويش على حماية الفني في مواجهة إكراهات السياسي، بل وقدرته على توسيع رقعة الفني على حساب السياسي، حتى في أصعب ظروف القضية الفلسطينية.
تلك هي صيغة درويش الشعرية السحرية. تلك هي، أيضا، أسطورته التي اكتملت، على نحو درامي، بموته.
ستهزمك أيها الموت، قصيدتي أو ساعتي وزر قميصي.
(إلى أكثر من شاعر)
رأيته، أخيرا، على شاشة تلفزيون، فلم تعد رؤيته، وجهاً لوجه، ممكنة، بعدما اختار، كما فعل بصلابة، الطريق إلى حياته أو موته. كان حيّاً. بكامل أناقته التي تسرَّه قبل أن تسرَّ غيره. كان يقرأ قصيدة. الكاميرا تصطاد طرائدها من حضوره المفرط: وجهه الأمرد النحيف، جفاف شفتيه، يده التي ترتفع، لتدفع المعنى بعيداً في هواء سامعيه، كأس الماء، كمّ قميصه، ساعته الذهبية. الكاميرا، مذ وجدت، جعلت الغياب يبدو افتراضياً. سجلت نقطةً، مؤقتةً، ضد الموت. فكيف يغيب من نراه، ونسمع صوته، ونكاد نلمسه باليد؟ لكن الكاميرا لا تقول الحقيقة كلها. إنها حقيقة اللحظة نفسها. لا قبلها ولا بعدها. الحقيقة التالية على لحظة الأبد المضللة تلك أن من رأيته على الشاشة يقرأ قصيدةً، ويحرّك يده، فيظهر كم قميصه وساعته الذهبية، لم يعد موجوداً بيننا. كان على موعدٍ مجهول مع الموت. لقد دفنوه على ربوةٍ، وزرعوا شجرةً قرب قبره. فكَّرت أن يد الشاعر التي أعانت المعنى على مقصده الصعب لم تعد موجودة، فيما زر قميصه سيبقى طويلا بعده. لزر القميص عمرٌ أطول من عمر صاحب القميص. الساعة تلك ستظل تتكتك. ربما تحتاج بطاريةً، بعد عامين أو ثلاثة، ولكنها ستعود إلى التكتكة من جديد. لا أعلم من سيرثها، ولكنه أيضا سيذهب وستبقى الساعة.
.......
المصباح بجانب سرير الشاعر لا يزال موجودا في شقته التي لم يعد إليها. كان الشاعر يأرق أحيانا. يضيء المصباح. يقرأ في كتابٍ، لكي يغالب الأرق الذي وصفه في مديحه النوم بوصفه هدية الليل. ذلك المصباح في الشّقة التي لم يعد إليها الشاعر، بعدما فتحوا صدره، لا يـــــزال موجودا. الكتاب الذي تركه بجانبه على المنضدة موجود كذلك. إن كان الشاعر من الذين يظمأون ليلا، فكأس الماء هناك أيضا. الأقلام التي اشتراها، أو التي أهديت إليه، في علبتها على يمين المكتب، بجانبها دواة الحبر الأسود. كل شيء هناك. كل شيءٍ على حاله. إلاَّ مَنْ وضع تلك الأشياء في أماكنها.
تحية لروح محمود. وشكراً للقائمين على إرثه الباذخ.
_____________________________________________
.. من كلمة الزميل الشاعر، أمجد ناصر، بمناسبة فوزه بجائزة محمود درويش للإبداع 2019، والتي ألقيت نيابة عنه في حفل إعلان الفائزين بالجائزة في رام الله. 
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن