تتواصل القراءات الغربية لتجربة المملكة العربية، التي أعلنها فيصل بن الحسين من دمشق، وآخرها تضمّنه كتاب صدر هذا العام بعنوان "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب"، للمؤلفة والأكاديمية الأميركية إليزابيث تومبسون، مقابل شحّ الدراسات العربية حول أول دولة مستقلة في التاريخ العربي المعاصر.
نقطة أساسية يشير إليها الباحث والأكاديمي الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط في كتابه "من الحكومة إلى الدولة.. تجربة الحكومة العربية في دمشق (1918 – 1920)"، الذي صدر حديثاً عن "الآن ناشرون وموزعون"، موضّحاً في مقدّمته أنه لم تُجر مراجعة نقدية شاملة بمناسبة مرور مئة عام على هذا الحدث التاريخي، في ضوء وثائق ومصادر جديدة لم يطلع عليها الباحثون العرب.
ويشير المؤلّف إلى بعد رمزي يتمثّل في انتهاء الاحتفال بالثامن من آذار/ مارس، اليوم الذي أعلن فيه استقلال سورية، حيث لم يعد هذا التاريخ بالنسبة إلى السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين مهماً، بل إنه تمّ محوه من قبل حزب البعث الذي حكم دمشق منذ عام 1963، وبات يحتفي بالثامن من آذار/ مارس، يوم انقلاب ضباطه وتسلّمهم السلطة.
أكثر من دلالة يحملها الإهداء إلى المؤرخة خيرية قاسمية
يحمل إهداء الكتاب إلى خيرية قاسمية معاني ودلالات، أولها أن هذه المؤرخة الفلسطينية (1936 – 2014)، من أهمّ الدارسين للتاريخ السوري في القرن العشرين مولية عنايتها لمواضيع بالغة الأهمية في مؤلّفاتها العديدة، ومنها "النشاط الصهيوني في المشرق العربي وصداه"، و"فلسطين في سياسات البلاد العربية"، وثانيها أنها وضعت كتابيْ "الحكومة العربية في دمشق"، و"لمحات من الحياة التعليمية والثقافية في ظل حكومة فيصل في دمشق".
يعود المؤلّف إلى خطاب الأمير فيصل في حلب بتاريخ 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918، الذي يقول فيه "خرج الأتراك من بلادنا ونحن الآن كالطفل ليس لنا حكومة ولا جند ولا معارف، والسواد الأعظم من الشعب لا يفقه معنى الوطنية والحرية ولا ما هو الاستقلال"، ليناقش أبرز القضايا التي شغلت الأمير والنخبة حول شكل الدولة الجديدة، وهي لا تزال راهنة وموضع جدل إلى اليوم.
كانت حدود الدولة أساس الحلم الذي راود العديد من الجمعيات والشخصيات بحلول عام 1915، بحسب الكتاب، لتمتدّ على الجغرافيا العربية في آسيا (العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية)، إلا أن رفض الإنكليز لخضوع العراق ضمن تلك الحدود بالإضافة إلى مناطق تقع اليوم في تركيا، جعل الدولة تنكمش إلى سورية التي تقسّمت بعد ذلك إلى أربعة بلدان.
يبيّن الأرناؤوط كيف قاربت حكومة دمشق، في تلك المرحلة، مفاهيم كالعروبة، معتبرة أن اللغة ومسقط الرأس هما معيار الانتماء إلى الدولة الجديدة، كما عبّرت عنها جرائد تلك المرحلة، مثل "العاصمة" و"المصباح" التي تعدّ مصدراً جديداً لدراستها، كما أن الدين أصبح يشير إلى الأديان والطوائف جميعها، في خطوة سعت إلى قطع أية محاولة للتدخل الخارجي باسم حماية الأقليات، وكان أهمّ مظاهر الديمقراطية وجود سلطة منتخبة وقوانين مبنية على الحرية والعدل والمساواة، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي حالت دون إجراء انتخابات في عدد من المناطق، كالساحل السوري وفلسطين، وتبنى الدستور حكماً مدنياً نيابياً، مع التفات كبير إلى التعليم بوصفه عمود التحديث والنهضة، حيث أشارت الصحف إلى ضرورة أن لا تخرّج المدارس الجديدة مجرّد طلّاب وظائف، إلى جانب التركيز على ضرورة الاستقلالين السياسي والاقتصادي.
في الوقت نفسه، لا يغفل سلبيات عديدة تتعلّق بالحياة الحزبية التي لم تعكس مبادئ الدولة، حيث استحوذ أعضاء "جمعية العربية الفتاة" على أهم المناصب، كما استطاع "حزب الاستقلال العربي" المنبثق عن الجمعية تأمين غالبية له في المؤتمر السوري (البرلمان).
يبيّن الكتاب مقاربة حكومة دمشق لمفهوم العروبة آنذاك
يضيء صاحب كتاب "البلقان من الشرق إلى الاستشراق" الدور الذي لعبه علماء دمشق، الذين كانوا يديرون أهمّ المؤسسات خلال العصر العثماني، كالقضاء والإفتاء والأوقاف، والذين راوحت مواقفهم بين التحفّظ والهجوم على فكرة الاستقلال عن الأستانة، وأصدر مفتي المدينة ونقيب الإشراف بياناً عنيفاً يدين "المؤتمر العربي الأول" الذي عُقد في باريس عام 1913، الذي نادى بإصلاح يضمن مشاركة العرب في الحكم، لذلك وجد هؤلاء العلماء أنفسهم مضطرين لقبول الحكومة العربية عام 1918 على مضض، وضاعف من شعورهم هذا أن النخبة المحيطة بالأمير كانت في معظمها من الحجاز وكبار الضباط العراقيين والسوريين والمثقفين اللبنانيين والفلسطينيين، وهي لا تمثّلهم مطلقاً.
يشير الكاتب إلى تبلور انقسام بين العلماء على مستويين؛ سياسي يتصل بعلاقة الأمير بالخارج، وتحديداً فرنسا، حيث عارضه الشيخان كامل القصاب ومحمد رشيد رضا، مقابل مؤيدين له يتصدّرهم عدد من العائلات الدمشقية المتنفذة، وفكري يتعلق بالمناقشات البرلمانية حول العلاقة بين الدين والدولة وحقوق المرأة، وكان أهمها رفضهم مقترح بعض النوّاب أن ينصّ الدستور على أن حكومة سورية لا دينية، وتم التوافق أخيراً على صيغة مدنية وأن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام، كما احتدم الخلاف حول المساواة السياسية بين الرجل والمرأة، والذي انتهى بغلبة دعاة المساواة الذين اكتفوا بانتصارهم في "محاضر" البرلمان دون إعلانه خشية إثارة العوام عليهم، وفق الكتاب.
يتناول الأرناؤوط كذلك رؤية الدولة الجديدة حيال التنوع الإثني والديني، الأمر الذي حاول العثمانيون في فرمانات سابقة إقرار المساواة في التمثيل بين جميع المكوّنات إلا أنها لم تنفّذ، لتأتي الحكومة العربية باقتراح يقضي بشكل من اللامركزية يقضي بإنشاء مجالس نيابية تدير شؤون المناطق التي تسكنها "أقليات"، كما يتطرّق إلى إنجاز مهم يتمثّل في إصلاح وتشغيل سكّة الحجاز لتسيير القطارات بين دمشق والمدينة المنورة كحاضرتين في الدولة ذاتها لعام واحد، ثم يتوقّف الأمر إلى الأبد.
من جهة أخرى، يستعرض الظروف والنقاشات التي أحاطت بإقرار جزء من دستور المملكة العربية، وموقف العلماء منها، والتي تستحق وقفة استثنائية لأن العديد من مواد الدستور لا تزال تشكّل موضع اختلاف وجدل حتى اليوم، بل ربما ازداد الاستقطاب حولها حدّة وشراسة، من أبرزها الخلاف على الدستور مدونة تشريعية رأى البعض أنها حلّت مكان الدين، وتعطيل جلسات عدّة كانت مخصّصة لنقاش ملف "الأقليات".
يُخصص المؤلّف فصلاً عن المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة (1888 – 1984)، كنموذج لفهم الانتقال من العثمنة إلى العروبة، حيث كان متحفظاً على احتكار السلطان العثماني للسلطة، ثمّ أيّد انقلاب "جمعية الاتحاد والترقي" عليه، ليتحوّل إلى معارضته بالانضمام إلى حركات إحياء العثمانية، وصولاً إلى التخلّي عن العثمنة والتحول إلى العروبة.
كما يبحث الكتاب في الموقف الأميركي المعارض لتقسيم سورية، والذي عبّر عنه الرئيس وودرو ويلسون الذي أرسل لجنة الاستعلامات إلى المنطقة العربية، ضمن دعوته لحق الشعوب في تقرير مصيرها، التي أوصت في تقريرها الذي عُرف بـ"الكتاب الأسود" بدولة سورية تمثل بلاد الشام (باسثناء فلسطين التي ستكون دولة منفصلة لليهود رغم استبعاد التقرير قيامها)، ورغم معارضة واشنطن لتقاسم بريطانيا وفرنسا لسورية إلا أنها لم تلتزم بما قدّمته من طروحات.
يضمّ القسم الثاني من الكتاب مراجعات لكتب جديدة نشرت في العربية أو الإنكليزية، هي: "صورة من الداخل للحكومة العربية في دمشق" لـ سعد أبو دية، و"أوراق الملك فيصل الأول، ملك العراق"، من إعداد وتحرير محمد يونس العبادي، و"مذكرات تحسين قدري، المرافق العسكري للأمير – الملك فيصل"، التي نشرها المؤرخ العراقي سيّار الجميل، و"باريس 1919: ستّة شهور غيّرت العالم" لـ مرغريت ماكيملان، و"الولاءات المنقسمة: القومية والسياسة الجماهيرية في سورية مع انهيار الإمبراطورية" لـ جيمس غلفنت، و"المعركة في سبيل سورية لـ جون غرينر، وروايتا "كيف تقول وداعاً" لـ محاسن مطر شبارو، و"الملك الأخير في دمشق" لـ جنفر ل. أرمستغرونغ. أما القسم الثالث، "الملاحق"، فيضم الوثائق المؤسسة للمناخ السياسي الجديد والمؤسسات التي قامت عليه، وصولاً إلى دستور 1919.