محمد معمّري.. الرواية والبحث وما بينهما

31 أكتوبر 2018
("المقامة 14" لـ عبد القادري)
+ الخط -

لا نجد في المكتبة العربية تراكماً لافتاً في الأعمال التي تحاول رصد الواقع دون المرور بالكتابة التخييلية أو البحثية، وهي منطقة تتسع لكثير من الأجناس مثل الشهادة والسير الذاتية والغيرية، وقد تتقاطع مع فنون الخطاب الإعلامي، فتكون في شكل استقصاءات أو قصص خبرية مطوّلة.

تقيم هذه النوعية من الكتابات علاقة خاصة مع قارئها، حيث ترتبط معه بعقد قراءة يفترض أن النص معاينة للواقع، تحضر فيها الجوانب الذاتية أو الجمالية كمكمّلات لا غير. ضمن هذا النوع المخصوص من الكتابة، صدر عمل بعنوان "في كل بيت داعشي" (مسكلياني، 2018) للكاتب والصحافي التونسي محمد معمري، وفيه يرصد مجموعة من "القصص" حول وصول أشخاص، من فئات اجتماعية مختلفة، إلى نفس النقطة: تنظيم "داعش".

الحكايات التي يوردها معمّري واقعية، غير أن القارئ سيجد فيها أثراً لما تعوّده من البنى القصصية التي تلتفت إلى بناء الشخصيات، والفضاءين المكاني والزماني، والتلاعب بتسارع الأحداث، وخصوصاً بالجانب الأسلوبي، فالحكايات المقدّمة ليست فقط سرد وقائع، إنما هي من جنس القصة القصيرة جرى توظيف إمكانياتها لخدمة الكتابة عن الواقع.

رغم ذلك، لا يمكن بحال تصنيف العمل كمجموعة قصصية، ليس فقط بسبب ما يخبرنا به المؤلف بصريح العبارة في توطئة بعنوان "لماذا هذا الكتاب؟"، أو امتناع الناشر عن هكذا تصنيف (وأي تصنيف في الحقيقة)، ولكن بسبب هيكلته.

فبعد مجموعة القصص التي تُوصل شخصيات الكتاب إلى "داعش"، يعود المؤلف إلى تفسير الظاهرة وخلفياتها، لينتقل من السرد إلى نصوص تخضع إلى المنطق البحثي، حيث يستند معمري إلى أدوات علوم الاتصال في فهم ما حدث، وكأنه يعود إلى "اليد الخفية" التي حرّكت الشخصيات التي قدّمها، من ذلك تناوله للأدوات الاتصالية وكيف يتم توظيفها، من الجانب التقني البحت وصولاً إلى اللعب على المخيال، ومن جهة أخرى يبحث في التربة التي هيّأت فرص الامتداد لهذا التنظيم.

هذه الانتقالات بين أنماط الخطاب في كتاب معمّري الأخير هي امتداد لمؤلفات سابقة تتقاطع في انشغالاتها بما ورد في كتاب "في كل بيت داعشي" لكنها اتسمت بوحدة تصنيفها الأجناسي، ففي 2010، صدر لـ معمّري كتاب "الصحافة الإلكترونية العربية: الأسس والتحدّيات" (منشورات كارم الشريف)، وهو عمل بحثي خالص، فيما صدرت له في 2017 رواية بعنوان "اعترافات ميت" (دار ورقة).

العملان السابقان يصبّان بوضوح في الكتاب الأخير، حيث يتقاطع مع أوّل إصدارات معمّري في دائرة الاهتمام بالمسألة الاتصالية، ونجد أثر ذلك واضحاً في ما يصرّح به المؤلف في بداية عمله بأنه يبتغي "تتبع التقنيات الاتصالية والإعلامية التي وظّفها تنظيم داعش لجلب أنصار له وردع الخصوم المفترضين".

أما رواية "اعترافات ميّت"، فهي مثل قصص "في كل بيت داعشي" تقدّم حكاية شاب انتمى إلى الجماعات المتطرّفة دينياً، مترصّدة عناصر عدة من بيئته لبناء تفسير مسار الشخصية. العمل اتخذ ملامح حبكة بوليسية، كما وظّف شكل كتابة اليوميات ونصوص التقارير الأمنية في صناعة عالمه التخييلي.

هكذا يبدو الوصول إلى الكتابة عن الواقع لدى محمد معمري وقد مرّ بأكثر من طريق، بين استناد إلى أدوات الكتابة الأدبية واعتماد المقاربات البحثية. كثيراً ما يتيح هذا المزج إعادة بناء فهم لمسائل في عالمنا تكون في شكلها الذي نتناولها به يومياً شائكة وضبابية.

المساهمون