نظّمَ برنامج الأدب المقارن في "معهد الدوحة للدراسات العليا" في الدوحة، ندوةً تحت عنوان "الأدب في الشرق القديم وتلاقح الثقافات"، استضافَ فيها الباحث والمؤرّخ الفلسطيني محمد مرقطن، المتخصّص في لغات وحضارات الشرق القديم، والذي يعملُ في معهد لغات وحضارات الشرق القديم في "جامعة هايدلبيرغ" بألمانيا، وهو خبير لغوي زائر في "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" حالياً، وقد شارك في أعمال تحرّيات وحفريات أثرية في العديد من البلدان، وترأس عّدة بعثات أثرية.
تناولَ مرقطن في مداخلته الأدب في الشرق القديم من منظور مُقارن، قدّمَ خلالها جولة في موروث الشرق القديم، مُعتمداً على الشواهد كمصادر تاريخية، حيث بدأَ بمسألة اختراع الكتابة والأبجدية وانتشارهما في الشرق القديم كونها مادة التوثيق الأساسية، ومن ثمَّ تطرّقَ إلى الكتابة والتدوين في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ومن ذلك انتقلَ إلى نماذج من الأدب في الشرق القديم، حيث عرَض أمثلة من أدب بلاد ما بين النهرين (السومري والبابلي)، والأدب في بلاد الشام، وأدب الرحلات المصرية، وأدب الجزيرة العربية وأصول الشعر الجاهلي، وصولاً إلى الشقِّ الثاني من الندوة الذي تناولَ فيه تلاقح الثقافات في الفضاء العربي في عصور ما قبل الإسلام، مع تبيان القيمة الأدبية - الثقافية لموروث الشرق القديم.
الكتابة والأبجدية
في تحديده للفضاء الحضاري للشرق القديم، يرى مرقطن أن شمال أفريقيا ومصر والجزيرة العربية وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، تُمثّل وحدة حضارية لغوية واحدة. واستناداً إلى دراساته، يعتقدُ أنّه مُنذ عام 10 آلاف ق. م. هناك تفاعل ثقافي وحضاري ولغوي في هذه المنطقة. وفي ما يتعلّقُ بالنشأة الأولى للغة العربية، يُشير مرقطن إلى أنّ العربية هي جزء من أسرة لغات كبرى تُسمّى السامية – الحاميّة – وهو يستخدمُ المصطلح موضّحاً عدم اقتناعه به – تمتدُ مما يُسمّى بلغات الليبو-النوميدية، الأمازيغية، والكوش، واللغات الساميّة في منطقة آسيا العربية.
والنظرية السائدة لاختراع الكتابة، ترى أنّ الطبقة الرابعة في مدينة أوروك/ الوركاء، اخترعتْ أقدم كتابة تصويرية والتي تطوّر منها الخط المسماري قرابة 3000 ق. م، ودون تأثير أيٍّ منهما على الآخر، بدأتْ الكتابة الهيروغليفية في مصر عام 3000 ق. م. وهذه الكتابة ليست أبجدية، إنما مقطعية ورمزية، أي بحاجة إلى معرفة قرابة 600 رمز وبأشكال مختلفة لهذه الكتابة. والكنعانيون في هذا السياق – وهم شعب تجاري أقام في ساحل بلاد الشام – لم تُعجبهم الكتابة الهيروغليفية المصرية ولا السومرية اللتان تضمّان مئات الرموز، ولذلك – وتحت تأثير الهيروغليفية – قاموا بتطوير الأبجدية الكنعانية في 1800-1900 ق. م. تقريباً، والتي انتشرت في كافّة أنحاء العالم. والكنعانيون استوحوا من هذا الخط النسخي، وكتبوا بالخط المسماري أبجدية أوغاريت، وهي أقدم أبجدية مكتوبة.
وينتقدُ مرقطن أنّه في تاريخ العربية ثُبّتَ العصر الجاهلي كعلامة فارقة، رغم أنّه لا يعني أكثر من جهل الناس بالدين الحنيف، ولا علاقة له بالثقافة، حيث هناك عشرات الآلاف من النصوص في الجزيرة العربية، والجزيرة العربية، بحسب العالم اليمني الحسن الهمداني، الذي عرّفها بأنّها المنطقة الممتدة من جبال طوروس إلى البحر، أي تشملُ بلاد الشام واليمن والعراق وشرق مصر والدلتا وغيرها. وأكثر نصوص أهل الجزيرة كُتبت على الصخور، لذلك يصوّر مرقطن الجزيرة العربية على أنّها أكبر متحف مفتوح في العالم.
وتتحدثُ كتابات أهل الجزيرة عن كافّة مناحي الحياة، فمنها نصوص قانونية وملكية، وأخرى تروي سيرة شخص، أو تُسجّل واقعة. وقبل 300 م، وهو التاريخ الذي اتّضحت فيه معالم الخط العربي، كتبَ العرب أولاً بالخط المُسند، كما كتبوا بالخط الآرامي، ومن الخط الآرامي طوّروا – خاصةً الأنباط – الخط العربي. وتوجد حاليًا اكتشافات أثرية تحسمُ النقاش حول أصل الخط العربي، حيث تعود إلى ما بين القرنين 5-6 ق.م.
شواهد ونقوش
كَجوْلة في نصوص الشرق القديم، بدأ مرقطن بعرض شواهد من مملكة تدمر العربية التي كتبت بالآرامية، ومن مملكة الحضر في شمال العراق التي كتبتْ بالآرامية أيضاً، والأنباط شمال السعودية. وقد كُشف في التسعينيات أوراق بردي محروقة في إحدى الكنائس بالبتراء مكتوبٌ عليها باليونانية، لكنها تشملُ الكثير من الألفاظ العربية، كما يتفقُ الكثير من العلماء أنّ اللغة القانونية في المرافعات بالبتراء كانت العربية.
ويُقدّر بعض العلماء نصوص الجزيرة العربية بمئة ألف نص، منها 15 ألفاً من حضارات جنوب الجزيرة، حيثُ يوجد ما كُتب منها بالخط السّبئي من 1200 ق.م. إلى قُبيل الإسلام. ويُشير مرقطن إلى أنّه حتى بداية التسعينيات لم يكن معروفاً المقصود بخط الزبور، إلى أن اكتُشفَ نحو 5 آلاف نص مكتوبة على عَسيب النخل تعودُ إلى حضارات اليمن القديمة. وتُقدّر النقوش الصفائية بحوالي 50 ألف نص، تعودُ خصوصاً إلى بادية الشام، وهي نقوش قصيرة أشبه بالتغريدات حول الحياة اليومية.
وتضمُّ بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ومصر، عشرات الآلاف من النصوص، حتّى أنّ هناك من يُشير إلى أنّ بلاد ما بين النهرين تحتوي مليون رُقُم طيني. ومثلاً، لمّا اكتُشفت "مكتبة آشور بانيبال" في أواخر القرن التاسع عشر، وُجدَ فيها 40 ألف نص، جمّعها ملك آشوري وفيها نسخة من ملحمة جلجامش. وفي القرن العشرين، كُشفَ عن ثلاث لغات في بلاد الشام، أوغاريت (1929)، والآمورية في الثلاثينيات، ولغة مملكة إيبلا (1979)، كما أنّ هناك لُغاتٍ لم تُعرف بعد ونصوصاً غير مقروءة.
وكأمثلة عن آداب الشرق القديم، أشار مرقطن إلى إنخيدوانا بنت الملك سرجون الأكادي، وهي أقدم شاعرة موثقة في العالم (2300 ق.م.)، وقد وثّقت كتابتها للترانيم والقصائد. ومن الأمثال السومرية، وردَ مثلاً: "الزواج بشري.. إنجاب الأطفال إلهي"، "قلب صديقتي هو قلبٌ صُنع لي"، "عندما يسيرُ الرجلُ، يجدُ شيئاً.. عندما تمشي المرأةُ، تخسرُ شيئاً". وهنا تجدرُ الإشارة إلى أنّ هناك العديد من الألفاظ السومرية التي تُستخدم في العربية إلى اليوم، مثل: الكرسي، إسكافي، نجّار، ملّاح. ومن آداب بلاد ما بين النهرين، أفضل مثال هو ملحمة جلجامش، والذي يُقدّر بعض العلماء الغربيين أنّه ثاني كتاب شرقي في التأثير على الغرب بعد الكتاب المقدس، ويعود أقدم نص عُثر عليه للملحمة إلى العصر البابلي القديم (2000 ق.م.)، ومن قبل ذلك قد تبادلها الناس، حتّى أنّه عُثر على نُسخ منها في مَجيدو بفلسطين.
وبالنسبة إلى الأدب الكنعاني، فقد وجدت في تل العمارنة أقدم مراسلات دولية (القرن 14 ق.م.) وعددها قرابة الأربعمئة، حيث أرسلها بالدرجة الأولى ملوك بلاد الشام إلى الفرعون المصري أمنحتب الثالث وأمنحتب الرابع، وتحتوي هذه المراسلات أمثالاً كنعانية، مثل: "حقلي (بدون حراثة) مثل المرأة بلا زوج". ومن النماذج المهمة في الشرق القديم، حِكم أحيقار (القرن 7 ق. م.)، المعروف في التراث الإسلامي تحت اسم لقمان الحكيم، وأقدم نص عُثر عليه يعودُ إلى القرن 5 ق.م. بالسومرية، ويردُ فيه مثلًا: "عاشِر الحكيم فإنّك تُصبح حكيماً، ولا تُعاشر طويل اللسان والمهذار، فإنّك تُعدُّ واحداً معه".
وفي أدب الرحلات المصرية القديمة إلى بلاد الشام، ذكرَ مرقطن قصّة سنوحي sinuhe (القرن 19 ق.م.)، وقصّة وينآمون wenamun (القرن 10 ق.م.). أمّا بخصوص الأدب في الجزيرة العربية وأصول الشعر الجاهلي، فأشار مرقطن إلى نقش ترنيمة الشمس الحميرية، الذي يضمُّ 27 بيتاً شعرياً مُقفى. إضافةً إلى الشعر السبئي الأشبه بالموشّحات. كما كُتبت الصلوات على العسيب. وعُثرَ على أقدم قصيدة عربية شمالية في عين عبده، شمال النقب، في فلسطين، مُكوّنة من ثلاثة أبيات، تعودُ إلى القرن الأول ميلادي. وتُسجّل المدونات أشعاراً من القرن الأول الهجري كُتبت على الصخور، وتُنسب إلى تُبّع وقس بن ساعدة.
وحدة جامعة للعرب
وفي ما يتعلقُ بالتلاقح بين الثقافات، يرى مرقطن أنّ استخدام الألفاظ السومرية إلى اليوم جزء من ذلك، وأنّ موروث الشرق القديم هو جزء أساسي من ثقافتنا، وقد حان وقت اهتمام العرب بهذا المجال، حيث إنّ من يشتغلُ به من العرب أقل من 10% بالنسبة إلى المشتغلين به من غيرهم، وبالتالي فإنّ مساهمة العرب في كتابة تاريخهم محدودة. وفي هذا الفضاء، وعبر التاريخ الطويل ورغم التنوّع الثقافي والوحدات والتطوّرات المُختلفة، إلّا أنّ هناك وحدة ما جامعة، فالعرب قد وصلوا إلى حدِّ الصين والأندلس، ثم رُدّوا إلى الفضاء الحضاري للشرق القديم، لذا فهو أساسي، ويبرزُ السؤال المفتوح هنا: "كيف استطاعت اللغة العربية خلال مئة عام أن تسيطر قُبيل الفتوحات الإسلامية على مصر وشمال أفريقيا واليمن؟".