علاقة فريدة تلك التي اقترحها محمد متولي الشعراوي (1911 - 1998)، بين الدين والمتديِّن في القرن العشرين، وبين القرآن ومتلقيه المعاصر. ولا يمكن فهم جدة هذه العلاقة دون ربطها بشهرة الشعراوي الذي استفاد من منعطف شيوع التلفزيون في العالم العربي، خلال سبعينيات القرن الماضي، ثم من بلوغ هذه الظاهرة ذروتها مع القنوات الفضائية في التسعينيات والتي تنافست في عرض حصص تفسيره وفتاواه. وبنفس الحماس، لا تزال شبكات التواصل تعيد نشر مقاطعه بعد رحيله بعقديْن.
بفضل هذا الانتشار الواسع، قدّم الشعراوي، وهو المتقن لفن التواصل موهبةً لا تكلفاً، خطاباً زاوج بين الدارجة المصرية والفصحى الميسّرة، مع استعانة ذكية بسيمائية جسده المهيب، ونبرة حديثه التي تحاكي بساطة الفلاحين، علاوة على روح الدعابة وحضور البديهة. اتكأ على هذه الكفاءات للتواصل مع جمهوره: يشرح له القرآن شفوياً، ويستنبط منه الفتاوى، أو يشنّف أسماعه بأحاديث عن الأخلاق والعقيدة والسيرة النبوية. وكان يجيد التعامل مع التساؤلات المحرجة ومواطن الشبهة والغموض، فيحلّها بأدلة بسيطة.
ولعل خيار تيسير الخطاب الديني هو الذي منع الشعراوي من معالجة معضلات التحديث العقلاني وقضايا صراع الثقافات، مع أنها احتدمت في تلك الحقبة. ففي هذا المجال، اقتصر نشاطه على الرد على آراء المستشرقين الذين انتقدوا مواطن الغموض في القرآن وألمحوا إلى وجود تناقضات في ظواهر آياته. فكان أن أرجع الشعراوي "شُبهاتهم" إلى ضعف مداركهم اللغوية وعجزهم عن تذوّق أساليب العرب وطرقها في التعبير عن المراد. وقد غذّى بردوده البارعة هذه إحساساً عاماً بصلاحية القرآن لكل زمان، ومخاطبته كلّ عقل ووجدان.
وفي خضم هذه المناقشات، لم يكن استخدام العامية المصرية، ضمن البرهنة الدينية، أمراً يسيراً. لكن الشعراوي عرف كيف يسلّط سجلّاتها على تعاليم القرآن ونوازل الفقه، فاستقى منها خطاباً يراوح بين العمق والبساطة، تفهمه عامة الجماهير، ولا تنفِر منه خاصة المثقفين، بل يحمل الجميع على التأمل بفضل ما فيه من التوازن.
وربما استفاد هنا من النقائص التي طاولت مدوّنة التفسير وكتب الفقه في عصرنا: فقد هجر الناس المدوّنة التراثية لصعوبة شروحها وتعقدها، علاوةً على ابتعاد سياقاتها عن مشاغلهم المعاصرة. وأما كتب التفسير الحديثة فهي إما موغلة في التبسيط، تشرح الكلمة بمقابلها، أو مشوبة بالتوظيف السياسي، وبعضها يبالغ في ربط القرآن بالاكتشافات العلمية الحديثة وإعجاز أرقامها، مما يحير القارئ/المشاهد البسيط العجول. وهي في كل ذلك تفسيرات نخبوية لا تستسيغها العامة. فما كان من الداعية المصري إلا أن أعاد إليها طراءة النص ومكّنها من ملامسة مواطن الجمال وسمو القيم.
ذلك أن منهج الشعراوي في التفسير يقوم على انتقاء "اللطائف" التي يستروحها مباشرة من الآية، أو يرويها عن القدماء. فيمر على معناها اللغوي، ثم يركز على ما تشير إليه من معانٍ روحية، كالإيمان والتوكل والمحبة والزهد... وكلها للروح مقامات، تحيى بذكرها. وهكذا، حرّر وعيَ المتلقي من سُلطة الوسائط وربطه مباشرة بالقرآن، فلم يعد بحاجة إلى تفريعات الفقهاء وتكلف العلماء للالتقاء بمعاني النص المقدس. وهذا ما تميزت به "خواطر الشعراوي"، عن مجلدات المفسرين التي جعلت الكتاب بمثابة خطاب ميت، تحلل مكوناته ببرودٍ آلي.
ومما زاد تفاسيره حياة أنها كانت تلقى على الملأ، وتبث مباشرة عبر الشاشات. ولما طُبعت في كتاب، أكّد صاحبها أنه لا يقدّم تفسيراً، بالمعنى المتعارف عليه، بل يعرض "خواطر". يقول في المقدّمة: "خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيراً للقرآن، وإنما هي هبات صفائية تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات". والمفردة أثيلةٌ، تنحدر من السجل الصوفي وترتبط بجنس الإشارات. يعرفها أبو حامد الغزالي (القرن الخامس هجري)، بقوله: "إن الخواطر آثارٌ تحدث في قلب العبد، تبعثه على الفعل أو الترك".
ومع ذلك، فخصوصية تفسير الشعراوي لا تعلل بمضمونه فقط، ولكن بما أحاط بشخصية كاتبه من التوقد والنشاط. فقد صاغ ما يقرب من مائة كتابٍ، عدا مشاركاته الإعلامية وقيامه بالتدريس، في الجزائر ومصر والسعودية، وكذلك بما أثر عنه من أعماله المبرة بالمعوزين. إذ سعى إلى أن يجعل القرآن سلوكاً معيشاً، يرى آثاره أبسط الناس، لا تنظيراً مجرداً، ينحصر لدى النخبة.
ولا شك أنَّ لقاءه الشهير بحسني مبارك، وجرأته عليه وهو يعظه، ضاعف إعجاب الناس به، وأعطى معنى حقيقياً لأقواله. فقد عكست تلك الموعظة البليغة ضرباً من التطابق بين العلم والعمل، بين نصاعة الفكر وشجاعة الوقوف في وجه الساسة، شجاعة عزّ نظيرها لدى علماء السلطان المعاصرين. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أن الشعراوي قد استفاد من الدعم الرسمي الذي وفرته له الدولة، ضمن حاجتها لخطاب وسطي، يقاوم من جهة الموجة السلفية، ومن جهة أخرى هجمة التغريب والليبرالية. وقلما اجتمع مثل هذا التقاطع بين إعجاب شعبي ورضى رسمي لداعية غيره.
وهكذا تهيأت عوامل كثيرة للشعراوي، ذاتية وخارجية، ليتحوّل إلى ظاهرة اجتماعية: ابتدأت محلية حين كان أثره مقتصراً على جمهور مسجد الحُسين بالقاهرة أو مجموعة ضيّقة من طلبة الأزهر. وصار بعدها أثره وطنياً حيث وصلت كلمته إلى جميع فئات المجتمع المصري، وانتهى على أوسع نطاق عربي-إسلامي حين شاعت تسجيلاته في سائر الأقطار وترجمت إلى لغاتٍ أخرى.
لكن الشعراوي لم ينجُ من تُهم تغييب العقل والتغافل عن منهجيات التفسير وآليات الفتوى الصارمة، وحتى بنشر التواكل. غير أن ما يشفع له أنه كان ينهض بدوره كداعية -أكثر منه كعالم محقق- يخاطب شعوباً عريضة، وجدت في حديثه مرجعاً تدافع به عن هويتها، وفي خطبه سلاسةً، أدلتها مبسطة، تتخللها نوادر وإشارات تردّ إلى الدين عفويته، وللقرآن طلاوته.
بكلمة، أراد صاحب "الخواطر" أن يجعل الكتاب في متناول الناس بعد أن أنزله من علياء التراث التفسيري المعقد، بما فيه من خلافيات وتناقضات. فكان هذا الداعية أحد أكثر من أخذ عنه المسلم المعاصر أمور دينه.