محمد علي بحري: هذا هو الموشّح

22 يناير 2019
مصر هي أُسّ الموسيقى العربية الكلاسيكية ومنبعها (العربي الجديد)
+ الخط -
 
ربما لم يسمع كثيرون باسم الموسيقي محمد علي بحري، فزهد الرجل في الأضواء والشهرة بلغ درجة تزعج من يعرف مكانته، باعتباره أحد أبرز مراجع الموسيقى الشرقية الكلاسيكية، وديوان الموشح العربي.
في مدينة حلب، معقل الطرب والفن ولد عام 1972، ونشأ وعاش. وهو في تحصيله علوم الموسيقى كان عصامياً، اعتمد على نفسه، ولم يتلق عِلماً مباشراً عن أستاذ. خبر الموسيقى والغناء الكلاسيكيين، من مقامات وإيقاعات وأدوار وموشحات وبشارف وقصائد وسماعيات ولونغات، بجناحيها الرئيسيين: العربي، متمثلاً في تراث مصر وسورية؛ والعثماني، متمثلاً في تراث كبار الموسيقيين الأتراك. لم ينتسب بحري إلى مدرسة غنائية أو أكاديمية موسيقية، ولم يحصل في حياته على شهادة "معترف بها"، فنقد الرجل شديد لمعاهدنا الموسيقية وطرائق التدريس فيها.
مع بدء الأزمة في سورية، تعرض بحري لمحنة كبيرة؛ إذ دُمّر منزله، وقتلت زوجته وابنته، وأصيبت أخرى إصابة بالغة ونجت بأعجوبة.
انتقل الرجل إلى بيت أخيه، لكن لم تطل به الأيام حتى سقطت على البيت قذيفة فدمر المنزل تدميراً كاملاً. فر بحري بابنتيه وأمه الضريرة إلى تركيا، وقضى بها ثلاث سنوات. ذاق فيها كل ألوان الشقاء والبؤس إلى أن انفتح الباب للهجرة إلى أوروبا، وبعد رحلة بحرية عانق فيها الموت مرات عدة، استقر به المقام في ألمانيا.
لا يبخل محمد علي بحري بعلمه، ولا يدخر جهداً لإجابة أسئلة تلاميذه ومحبيه من المتخصصين والباحثين حول العالم. يقدّم شروحاً مجانية للمقامات والإيقاعات، عبر قناته على يوتيوب، وصفحته على فيسبوك، ويمارس هوايته في تأليف وتلحين الموشحات بالمقامات النادرة والإيقاعات غير المطروقة. يسهب في شرحه، فيستغرق تناوله بعض المقامات ساعة واثنتين وثلاثاً.



في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، نسأل بحري: كيف كونت نفسك علمياً، وبهذه الموسوعية، وأنت لم تنتسب للأكاديميات الرسمية في حياتك؟ يجيب: "نعم، لم أتلق درساً من أحد، ولم أنتسب بحياتي لمعهد أو لمدرسة فنية، لكني حفظت قرابة 700 موشح أندلسي بمقاماتها وإيقاعاتها، واطلعت على 500 دور مصري تقريباً، مع معرفة ملحنيها ومغنيها، وكل من تعلمت منهم واعتبرتهم أساتذتي لم ألتق بهم أو أعاصرهم، وإنما أساتذتي هم كبار أهل الفن والصنعة، فمدرستي في بلاد الشام تتمثل في أعمال الراحل الشيخ عمر البطش، أستاذ صنعة الموشحات؛ والراحل الموسيقي الشيخ بكري كردي، والشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي". يضيف: "ومن مصر، أعتبر كلاً من الشيخ سيد درويش وكامل أفندي الخلعي ومحمد عبد الوهاب في ألحانه قبل سنة 1940 والشيخ مصطفى إسماعيل، أساتذتي، ومعهم جميع مشايخ الأسطوانات القديمة ودولة ملحني الأدوار فيها، من أمثال الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، وعبده الحامولي، محمد عثمان".
هنا، توجّها إليه بالسؤال: إذا كان هؤلاء هم أساتذتك في الموروث الموسيقي العربي، فمن أساتذتك في الموسيقى التركية العثمانية؟ يقول: "من تركيا، جميل بك الطنبوري، وطاطيوس أفندي، والقانوني حاجي عارف بك، والمعلم إسماعيل حقي بك، لقد درست كل الموروث الموسيقي العثماني والتركي من بشارف وسماعيات وموشحات تركية وحفظت كل ملحنيها وألحانها، وهذه هي المدارس الثلاث التي بنيت بها نفسي فنياً وذوقياً وموسيقياً".
حديث بحري المطول عن موسيقى مصر وسورية، دفعنا إلى السؤال: لماذا نجد أن أواصر القربى متينة بين الفن الموسيقي في مصر وحلب، ولم كان لهما السبق والتفوق في هذا الميدان على سائر البلاد العربية؟



يجيب: "من المعلوم، بالضرورة، لكل دارس وباحث، أن مصر هي أُسّ الموسيقى العربية الكلاسيكية ومنبعها الرئيس، تليها سورية، وأخص منها حلب في الأهمية وكقيم تاريخية موسيقية إبداعية، ولمصر القدح المُعَلّى في ذلك، وقد ترجم كامل أفندي الخلعي في كتابه "الموسيقى الشرقية" حياة أستاذه أحمد أبو خليل القباني الدمشقي؛ فبين أهميته ومكانته العظيمة بالفن". يوضح: "كبار الفنانين المصريين زاروا حلب، ومنهم الشيخ سيد درويش، حيث استفاد كثيراً من مخزونها العلمي والفني في صناعة وتلحين الموشحات، ولمحمد عبد الوهاب ثناء وحديث خاص عن الفن الحلبي وعن دور حلب وقيمتها في الموسيقى العربية".
ينبه بحري إلى أن الشيخ عمر البطش الحلبي، ملحن الموشحات الكبير والشهير وأستاذ الفنانين الكلاسيكيين الكبار صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ماهر، قد لحن "خانات" لمعظم موشحات الشيخ سيد درويش؛ فجاءت كلها، برأيه، متماسكة في البنية كقوة واحدة بما يخيل معه للسامع أن الموشح ملحنه واحد. مثل موشحات "العذارى المائسات"، و"طف يا دري بالقناني"، و"يا شادي الألحان"، و"ليل بصفات"، فكلها لسيد درويش وخانتها للبطش.



يرى بحري أن "الموشح" هو أهم القوالب الموسيقية التي يجب أن يوليها الدارسون جل عنايتهم، ويرى أن تلحين الموشحات يحتاج إلى موسيقي متمرس واسع المعرفة بالمقامات والإيقاعات. نسأله: من أهم ملحني الموشحات العربية؟ يقول: "أشهر ملحني الموشحات في سورية هما الشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي، والشيخ عمر البطش الحلبي، وهو أهم من القباني في هذه الصناعة. هذا من ناحية التلحين، وأما كعلم موسيقي ودراية نظرية، فالموسيقي الكبير الشيخ علي الدرويش الحلبي، أستاذ عبد الوهاب والسنباطي وكثيرون".
ويوضح بحري، أن لعمر البطش وحده 150 موشحاً على مختلف المقامات الموسيقية، ومنها ما هو نادر كمقام اليكاه والسيكاه الأصلي، وليس الهزام. ومن بعده لم يلحن أحد موشحات ذات قيمة فنية كبيرة باستثناء تلامذة البطش، وأهمهم الراحلون بهجت حسان وعبد القادر حجار وصبري مدلل، ولكن كانوا مقلين في التلحين، وفي أعمالهم ما هو جيد، وما ليس له قيمة كبيرة، واختفى ملحنو الموشحات من سورية بعد هؤلاء، ولم يظهر في الساحة أحد إلى أن "بدأت أنا في تلحين هذا القالب، وقد أتممت منه حتى الآن قرابة 160 موشحاً ملحنة على مقامات موسيقية نادرة، كمقام الفرح فزا والسلطاني يكاه، والجان فزا، والزاويل، والمستعار، والشد عربان، والعجم كردي، والطاهر بوسلك، والعجم بوسلك، وكذلك الموازين الإيقاعية الكبيرة، مثل إيقاع الثقيل المصري 96/4 وإيقاع الخفيف التركي 64/ 4 وإيقاع الفتح 176/4 وإيقاع الشنبر والفاخت والمخمس والرهج والهزج والترك ظرب والدور كبير وغيرها كثير".
وأما في مصر، فيرى بحري أنه بعد كامل الخلعي، يأتي الشيخ سيد الدرويش وصفر بك علي وداود حسني، ولم يظهر ملحن مصري يتابع مسيرة هؤلاء الكبار في تلحين الموشحات، سوى قلّة من موسيقيين لم يُوفّقوا في هذا الميدان. وأما كبار المطربين والموسيقيين، كعبد الوهاب وفريد الأطرش وكارم محمود؛ فاهتموا بتلحين الأغاني ولم يلتفتوا لتلحين الموشحات.



يعتبر بحري أن عبد الوهاب لم يوفّق، أيضاً، في تلحينه لموشح واحد يتيم، وهو "يا حبيبي أنت لي كل المراد" من مقام البياتي، وإيقاعه المربع، وأن لحنه أقرب إلى الأغاني العادية.
حديث الأستاذ بحري عن زهد الموسيقيين، حتى المشاهير منهم في تلحين الموشح، دفعنا لنسأله عن أسباب هذه القطيعة بين كبار الملحنين في القرن العشرين وبين الموشح؛ فقرر أن هذا الموقف يعود إلى عدة أسباب، منها: ضعف الطلب الجماهيري على هذا اللون لجهل الناس به، ومنها صعوبة تلحين الموشح لأنه فن هندسي صناعي وتناوله يحتاج من الموسيقي إلى ثقافات ودراسات معينة كي يتمكن من التعامل معه. والمطربون عموماً، كما يرى، يتجنبون غناءه لصعوبة إيقاعاته وتعقيد جمله اللحنية.
كيف للمهتم بالموسيقى الكلاسيكية أن ينمي ذائقته؟ وكيف يتعامل مع هذا التراث الضخم؟ نسأل بحري، ليجيب: "كل إناء ينضح بما فيه. لذا يجب أن يكون مخزونك السماعي والحفظي جيداً وثرياً ومستقى من الينابيع القديمة الصافية ومؤسسا على أهم قوالب وقواعد بناء الفنان؛ فيستمع من يريد بناء ذائقة نقية سليمة إلى عالم الأدوار المصرية القديمة، وفن إلقاء الليالي والقصائد وتلحينها وفن الموشحات، ويطلع على باقي القوالب الموسيقية كالبشرف والسماعي واللونغا. وأن يأخذ كل ذلك من مؤسسي هذه الفنون من القدماء الذين ملأوا مئات الأسطوانات القديمة بمختلف الفنون الموسيقية، وهم من نسميهم بشيوخ الأسطوانات القديمة في مصر".



يؤكد بحري ضرورة ووجوب الاطلاع على ألحان شيخ الملحنين القدماء، محمد عبد الرحيم، الشهير بالمسلوب، والتعرف إلى ألحان عبده أفندي الحامولي، وإبراهيم القباني، ومحمد عثمان، وداود حسني، والشيخ سيد درويش، والاستماع بعمق لألحان محمد عبد الوهاب القديمة، أي ما قبل سنة 1940.
يُحذر بحري من أداء الفرق المتأخرة للقوالب الكلاسيكية، فبنظره أن فرقة مثل فرقة عبد الحليم نويرة أساءت لقالب الدور والموشح والمصريين، إذ يرى أن للدور فلسفة وطريقة متبعة، وأن الفرق المتأخرة عرضت الأدوار بطريقة تبتعد عن جماليات عصر النهضة، فالطرب الكلاسيكي لا يعرف هذه القولبة.
يشن الأستاذ بحري غارات متوالية على أساليب دراسة القوالب الموسيقية الكلاسيكية في معاهد ومدارس الوطن العربي، ويرى أن معظمها غير موفق في تخريج موسيقي أو مغنٍّ حقيقي، يتمتع بقوة القدماء أو يضاهي وينافس موسيقيي الأعلام الرواد. ويعدد محاورنا أسباب هذا الفشل، فيضع في المقام الأول افتقار تلك المعاهد لمناهج تأسيسية واضحة ومدروسة وثرية.
اقترحنا على بحري توضيح وجهة نظره في المناهج الدراسية الموسيقية بالمعاهد والأكاديميات العربية. يقول: "الموسيقى العربية مؤلفة من مقام وإيقاع، وتفتقد المقامات والإيقاعات العربية عند تدريسها إلى نماذج تلحينية على تلك المقامات والإيقاعات، وتدور هذه المناهج كلها في ما لا يتعدى 30 مقاماً موسيقياً، تزيد عملياً إلى نحو 35 مقاماً مشروحة نظرياً فقط، ومن دون شواهد عربية ملحنة على تلك المقامات، بينما تحوي الكتب الكلاسيكية من المقامات الموسيقية ما يبلغ 200 مقام. وهناك ضعف في باقي القوالب العلمية الموسيقية، كالبشرف والسماعي والموشح والدور". وبرأيه، فإن هذه القوالب هي التي تخرج فناناً قوياً، وليس حفظ الأغاني الحديثة، مهما كانت عظيمة، لذلك، فخريجي المعاهد الموسيقية الآن في غاية الضعف، وأداؤهم متدن جداً.
النظرة النقدية الشديدة لبحري، كانت دافعاً لنسأله عن ظاهرة عودة بعض الشباب المصري، وغيرهم، ليلتفوا من جديد حول الموروث العربي القديم. وهل يأمل في ثورة فنية للعودة إلى الموروث الكلاسيكي وإحيائه ليجد جماهير أوسع من المستمعين والمتذوقين؟ يؤكد بحري أنه لاحظ هذه العودة المضطردة نحو الغناء الكلاسيكي، وظهور عدد من شباب المطربين والعازفين المتفرغين لهذا اللون الأصيل. يرى بحري أن ذلك مبشر ومفرح، لكنه لن ينتج أثراً واضحاً، ما لم يجد هؤلاء الشباب الدعم المادي والإعلامي، وأن تكون الفرص متاحة وفقاً لسعة العلم وجودة الفن، وليس عبر المحسوبيات والواسطة. يقول: "هؤلاء الشباب يشكلون كرات الدم القليلة التي تحاول الدفاع عن تراث مصر الفني الموسيقي الكبير".
يهتم محمد بحري كثيراً بالإنشاد الديني، باعتباره أحد أهم روافد الفن الكلاسيكي، وبما أنه ابن لمدينة حلب، فكان من المهم أن نعرف رأيه في أداء فرق الإنشاد الديني السورية الجديدة، ولا سيما تلك الفرق التي جاءت إلى مصر. أخرج الرجل تنهيدة، قبل أن يقول: "الفرق الإنشادية السورية أخذت مساراً تجارياً محضاً، فلا هي أخلصت للمديح وأعطته الخشوع والصدق، ولا هي ظفرت بالفن الموسيقي السليم، وأصبح كل همها تلبية مطالب جمهور البسطاء والسذج، وأداؤها خليط وهجين، لا تعرف إن كان موشحاً أو ابتهالاً أم غناء عادياً. لم تستطع أن تنقل للشعب المصري حقيقة المدرسة الإنشادية الحلبية الرصينة الأصيلة".
المساهمون