محمد علي الأسطورة

10 يونيو 2016

الملاكمة وسيلة كلاي للانتصار ضد العنصرية (24 سبتمبر/2008/Getty)

+ الخط -
لستُ مولعاً بالرياضة بأنواعها كافة، فلم أهتم يوماً بكاسيوس كلاي الذي حمل اسمه المسلم محمد علي. لم أهتم به كأسطورة في عالم الملاكمة التي لم أحبها كرياضة، لأنها تحمل قدراً من العنف والكراهية، لكني أستطيع أن أفهم اختياره هذه الرياضة المتاحة للأفارقة الأميركيين في مجتمع عنصري، عانى منه هؤلاء عقوداً طويلة قتلاً وسجناً واغتصاباً ومحقاً لإنسانيتهم. كانت الملاكمة وسيلة محمد علي للانتصار ضد العنصرية من جهة، وسقوطاً في الصورة النمطية التي اخترعتها العنصرية الأميركية، رياضة تصلح للنيغرو المحتقر لديهم، والمنسجمة بما صنعه عقلهم العنصري عن السمات السيكولوجية للنيغرو، ومنها الميل الطبيعي للعنف. وذهب علماء اجتماع أميركيون بيض إلى وصف مواطنيهم السود بصفاتٍ أقرب إلى الحيوان وهمجيته، وتمادوا في تفسير البنية الجسدية للأميركيين من أصول إفريقية، تلك البنية الضخمة، بعظامها وطولها وحجم الساقين. وهكذا، إلى أن وصلوا إلى تفسيراتٍ حول تفوقهم الجنسي على الرجل الأبيض. وفي الواقع، كان اختيار السود الرياضات العنيفة، مثل الملاكمة أو المصارعة والجري وكرة السلة وغيرها، يكشف عن تناقضاتٍ طبقيةٍ في المجتمع الأميركي، حيث السود في المقام الأدنى طبقياً. ولا تحتاج هذه الرياضات المال، لكي يتعلمها المرء، أو يتفوق بها. يكفي إصراره على الممارسة بإشراف مدربٍ في حيّه الفقير، لكي يبرز وينافس ويكسب. أما الرياضات التي برع فيها البيض في المجتمع الأميركي، فهي تحتاج فعلاً إلى المال لشراء أدواتها، فمثلاً برع البيض برياضات الغولف والإبحار في المراكب الشراعية أو الهوكي.
مع تطور وعيه بذاته، ولا شك أنه كان ذكياً ومتحدثاً لبقاً، رمى كاسيوس كلاي اسمه من مرحلة العبودية الذي تم اختياره لأبيه، ثم له، من السيد الأبيض، وأعلن إسلامه، واتخذ اسم محمد علي من غير كنية كلاي. فمفردة كلاي تعني بالإنكليزية الطين، وهي دلالة حول حجم العنصرية التي كان يفرضها البيض في اختيار أسماء العبيد، بحيث لا تشبه أسماء الأسياد. كما أن كاسيوس، وهو شخصية رئيسية من مسرحية وليم شكسبير "يوليوس قيصر"، وهو شخصية إشكالية في المسرحية، فقد كان قيصر يخشاه، ويعتبره قادراً على النفاذ إلى دواخل الناس، وهو بحسب هذه الدراما العظيمة الذي أقنع بروتوس في الانخراط في المؤامرة للتخلص من القيصر، والاستيلاء على السلطة، وقد قدّمه شكسبير شخصاً فاسداً ومرتشياً، فرض الضرائب، لكي يرضي نهمه بالسلطة والمال.
ربما كان محمد علي على دراية بهذه المعاني جميعاً، من الطين إلى الشخصية المشوهة لكاسيوس، فتخلص من الإسم، واختار إسماً لشخصيةٍ قد تقترب من الأسطورة أيضاً، بما قدمته من أفكار وقيم إنسانية جديدة في مرحلةٍ عاش فيها العرب، وبقية الشعوب، حالة من البحث عن دين توحيدي جديد.
لم يكن محمد علي في اختياره الملاكمة خارج التفسير السيكولوجي لاختيار هذه الرياضة، فهي تجعله يقتصّ من شعور المهانة اللازم له التي تفرضه العنصرية، في التفوّق على منافسيه، وفرض على السلطة حضوره بطلاً عالمياً، يمثل الولايات المتحدة، فهو، في نهاية الأمر، ابن هذا المجتمع بكل تناقضاته ومثالبه، وكأن الرياضة لم تكن كافيةً، لتملأ روحه بالتميز والتفرّد، وأسطرة حياته ومجده الرياضي، فلجأ إلى الإسلام الذي كان، في تلك المرحلة المبكرة، مرفوضاً من المجتمع الأميركي، حتى من كثيرين من السود الأميركيين، وخصوصاً أن خلافاتٍ دبّت في الحركة الإسلامية بين مؤسسيْها، علي جاه محمد ومالكوم إكس. وفوق ذلك كله، تحدّى محمد علي المجتمع الأميركي ومؤسساته، برفض التجنيد الإجباري والذهاب إلى فيتنام للحرب، لأن تعاليم دينه لا تشرع له قتال الآمنين في ديارهم.
تميزت شخصية محمد علي وحياته بتعقيداتٍ كثيرة، لكنه كان دائماً يسعى إلى نصرة روحه التي أثخنتها العنصرية بجراحٍ لا تندمل، وقد يكون انتصر.
دلالات
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.