في ذكرى رحيله التي تصادف اليوم، يبدو الشاعر محمد عفيفي مطر (1935-2010) هادئ الحضور، عميقه وشفّافه كما كان على امتداد حياته التي ما انفكت تشقّ مساراتها الخاصة المتعافية بإشراقة الشعر وتجلياته ودفاعه عن الإنسان ومستقبله في الدنيا وفي "أم الدنيا".
مثلما يحرث الفلاح الأرض يحرث عفيفي مطر اللغة، محاولاً ألا يشبه في بنيته اللغوية أحداً، فبينما كانت لغة صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل ترتبط بالواقع بدرجات متفاوتة، كان صاحب "من دفتر الصمت 1968" يغرّد وحده فيما وراء اللغة المباشرة، حتى أصبح بعد ذلك توجهاً شعرياً له تلاميذه خلال مسيرة شعرية امتدت قرابة الخمسين عاماً، لم تنقطع خلالها إصداراته بين مجموعات شعرية وكتب سردية وقصص أطفال ومقالات نقدية وترجمات شعرية.
"ولدتني أمي على شاطئ النيل، حيث جاءها المخاض فانتزعتني وذهبتْ بين الحقول، ومن يومها وأنا أعشق النيل والطمي والرمل والحقول"، هكذا يتحدث "شاعر الطمي" عن نفسه حيث ولد في قرية "رملة الأنجب" التابعة لمحافظة المنوفية، وكانت القرية المصرية بطقوسها وحكاياتها ومواويلها وأساطيرها إحدى أهم المؤثرات في تجربة صاحب "الجوع والقمر" و"يتحدث الطمي" في مرحلته الشعرية الأولى.
من يقرأ دواوين صاحب "رسوم على قشرة الليل" يلاحظ أن عفيفي مطر المزدحم بالتجربة الصوفية، المُحَمَّل بالأسئلة الوجودية، الممتلئ بعوالم القرية، الذي درَّس الفلسفة في المدارس لسنوات (حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة) يحاول دائماً أن يمزج بين كل هذه العوالم ليخلق أسطورته الخاصة.
علاقته بالفلسفة ظهرت جلية في ديوانه "رباعية الفرح" الذي يتكون من أربع قصائد طويلة تتعلّق كل قصيدة بعنصر من عناصر الخلق (الماء والنار والهواء والتراب) في الفلسفة اليونانية القديمة.
تنوعت مصادر ثقافة صاحب "النهر يلبس الأقنعة"، لكنه ظل وفياً لعلاقته مع تراثه العربي والإسلامي، فتجده يتجادل مع عمر بن الخطاب، كما كتب في مقدمة ديوانه "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" إهداء إلى الرسول هو "محمد.. سيد الأوجه الطالعة".
وصف الناقد محمد عبد المطلب شعرية "مطر" بأنها "شعرية التراكم لا القطيعة، كأن قصائده عمرها ألف عام مع أنّها بنت لحظتها، وهذا البعد الزمني المتوّهم جاء لأنّ الإنسانية كلها حاضرة في هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية عن ذاتية عفيفي وهمّه الوطني والقومي والإنساني".
تعمدت المؤسسة الثقافية المصرية تهميشه بسبب مواقفه السياسية المعارضة للسلطة، حيث نشر في مجلة "سنابل" (1969-1972) التي كان يحررها مع مجموعة من أصدقائه بجهودهم الذاتية، قصيدة بعنوان "68" يحثّ فيها الطلاب على التظاهر لإنهاء فترة اللاسلم واللاحرب التي وسمت بدايات عصر السادات.
لكن التهميش الذي تعمّدته السلطة المصرية آنذاك لعفيفي مطر لم يتوقف عند هذا الحد، بل صادر النظام الساداتي مجلة "سنابل" عقب نشرهم "أغنية الكعكة الحجرية" لأمل دنقل، ولم تكن "سنابل" مجرد مجلة ثقافية تهتم بالإبداع فقط بل كانت بمثابة تيار ثقافي معارض لتيار مثقفي السلطة.
ففي الوقت الذي كان فيه الشعراء والكتاب يتغنون بإنجازات مشروع النهضة العربي، دون النظر إلى الخطر الذي يهدده من الداخل، كان مطر يكتب ديوانه "شهادة البكاء في زمن الضحك" مما جعل محمود أمين العالم يقول: "شاعر يبكي ونحن نبني السد العالي"!
وبالرغم من التهميش الذي عاناه من المؤسسة الثقافية، إلا أن شعراء السبعينيات من جماعة "إضاءة 77" و"أصوات" التفوا حول تجربته، وأعجبوا بلغته الشعرية الجديدة التي تخفّفت من الشعارات السائدة آنذاك، واعتبروا تجربته انتقالاً بالقصيدة العربية من حالة الأحادية التي اتسمت بها قصائد المد القومي، إلى الذات المحملة بموروثها التاريخي وهمومها الواقعية، وصار عفيفي مطر لديهم شاعر الحداثة الأول في مصر.
ومثل كثير من المثقفين المعارضين لاتفاقية "كامب ديفيد" الذين فرّوا من مصر في هذه الفترة، فرّ محمد عفيفي مطر إلى السودان ومنها إلى العراق 1976 ليعمل محرراً ثقافياً في مجلة "الأقلام"، وكان خلال إقامته في العراق قريباً من فكر "حزب البعث" على المستوى القومي، كما يقول صديقه الروائي سعيد الكفراوي لـ"العربي الجديد" ولم يتمكن من العودة إلى مصر إلا بعد رحيل السادات بعدة أعوام.
بعد العودة إلى مصر، وفي ظل محاولة النظام المصري الجديد تغيير السياسة التي انتهجها السادات في آخر عهده، تم منحه جائزة الدولة التشجيعية 1989، إلا أنه كان يدرك أبعاد هذه اللعبة جيداً، وفي كتاب سيرته "أول زيارات الدهشة.. سنوات التكوين" خصّ فصلاً كاملاً بعنوان "الغول للأبد" تحدّث فيه عن استخدام النظام آلته الإعلامية الضخمة في احتواء وإبراز المثقفين الذين ينحازون إليه ويبررون فساده، بالتوازي مع تهميش كل من يخالفونه.
عفيفي مطر الذي كانت الأسئلة تظلّله كسحابة، ظلّ على خلافٍ دائم مع دعاة امتلاك الحقيقة، سواء من التيار الديني أو التيار الماركسي، فكلاهما اتهماه، لكنه ظل يدافع عن وجهات نظره ضد الأطروحات التي ظهرت في الستينيات، وخاض صراعات فكرية عديدة، منها خلافه مع المثقفين الذين أرادوا أن يقطعوا كل صلة لهم بالتراث، فمطر، كما ذكر عنه صديقه الروائي سعيد الكفراوي، كان يرى "بلادنا عربية ودينها الإسلام وهويتها مشرقية".
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق، فتعرّض لتعذيب همجي، وتضامن معه عدد كبير من الشعراء والكتاب المصريين والعرب، وكتب خلال فترة اعتقاله ديوان "احتفاليات المومياء المتوحشة" سرد فيه تجربة تعذيبه في السجن.
وعن رفيق رحلته الطويلة وصديقه الأقرب يقول الروائي سعيد الكفرواي: "تجربة مطر الشعرية تنطوي على عمقها الخاص الذي يشبهه ويشبه هؤلاء المغمورين من أهل القرى الذين كانوا مادة لخياله. ظل مطر وفياً لحياته وجماعته، وانشغل بالنبش في ضمير أمته". ويضيف الكفراي: "الاحتفاء الرسمي من الدولة بـعفيفي مطر، جاء متأخراً جداً بحصوله على جائزة الدولة التقديرية 2006"، ويرجع الكفراوي ذلك إلى أن مطر كانت له مواقفه الواضحة في معارضة السلطة، ولم يكن ينتظر شيئاً من الدولة ومؤسساتها حيث كان يكسب قوت يومه بيديه، حيث زرع الأرض وربى النحل.
ويبقى في البال ما ردده محمد عفيفي مطر في تلويحة الوداع: "حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي، لم أغلق باباً في وجه أحد، ولم أخطتف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على كذب أو ظلم أو فساد.. الله فاشهد".