محمد سْليم رياض: غيابٌ تلاه غياب

أطفالٌ يلعبون في العراء، بيوت صفيح، "مركز التغذية والحليب" التابع لـ "الأونروا"، نساء وشيوخ وأطفال أمام حاجز إسرائيلي على الحدود الفلسطينية الأردنية، تبلغُنا أصواتهم وهم ينتقلون من مكان إلى مكان، أحاديث وجملٌ متقطّعة تضعنا في المشهد العام: "خلّي ناصر يحميكو"، "ست أيام، عيب والله عيب"، رجلٌ يقف وسط حشود اللاجئين، يحدّث نفسه قبل أن يمضي: "المنظرُ هو هو؛ نفس التشرّد ونفس الهجرة. من عشرين سنة، كانت مطاردة، هجرة وتشرّد من اللد لَضواحي نابلس، ولكن كانت هجرة داخل أراضي فلسطين. واليوم، هجرة وتشرّد، لكن ها المرّة هجرة لخارج فلسطين... هجرة لَمصير مجهول".

نحتاج إلى بعض من التركيز على ملامح الرجل الذي يعتمر كوفية فلسطينية ويحملُ أغطيةً على ظهره، لنتعرّف إليه. إنه الممثّل الجزائري امحمّد بن قطّاف (1939 - 2014). ومع بدء شارة الفيلم الروائي "سنعود" (1972)، سنقرأ إلى جانب اسمه أسماءَ نخبة من الممثّلين الجزائريين والعرب: عبد الحليم رايس وحسان والحساني من الجزائر، زهرة فايزة من تونس، ورفيق سبيعي وهالة شوكت من سورية.. أمّا مخرج الشريط، فهو الجزائري محمد سْليم رياض، الذي رحل الإثنين الماضي في مدينة ناربون الفرنسية، عن 83 عاماً.

على مدار ساعة ونصف، هي مدّة الفيلم، الذي اقتبسه المخرج أحمد راشدي (1938) بالاشتراك مع آنيا فرانكوس ورياض نفسه، سنستمع إلى هؤلاء الممثّلين، في إحدى المرّات النادرة في تاريخ السينما الجزائرية، وهم يتحدّثون باللهجة الفلسطينية. لم يكُن أداؤهُم، من هذه الناحية (اللهجة)، متقناً جدّاً، لكن كلّ شيء في العمل، بدءاً بأماكن التصوير والأزياء ووصولاً إلى الأحداث نفسها، يجعلنا في قلب القصّة الفلسطينية: النفي والتهجير الذي تعرّض إليه الفلسطينيون، المقاومة الفلسطينية والهمجية الإسرائيلية في مواجهتها، الانقسامات في صفوف المقاومة، والدور السلبي للأمم المتّحدة في الصراع.

عام 1971، حطّ سليم رياض رحاله في قرية العلايق في مدينة بوسعادة (جنوبَي الجزائر) لتصوير فيلمه الذي أُنتج بشراكة بين الجزائر و"منظّمة التحرير الفلسطينية"، بعد سنة من التحضير، انتقل فيها بين سورية والأردن وفلسطين، حيثُ التقى ياسر عرفات وجورج حبش، واستقدم ممثّلين من تونس وسورية ولبنان وفرنسا. الشريط، الذي حاز جائزة لجنة التحكيم في "مهرجان بغداد السينمائي" عام 1973، هو الفيلم الجزائري الوحيد الذي تناول القضية الفلسطينية، وقد اعتُبر أحد أبرز الأعمال السينمائية التي تناولت القضية.

لا يُمكن فصل "سنعود" عن سياقه التاريخي؛ إذ أُنجز الشريط في عهد الرئيس الراحل هوّاري بومدين (1932 - 1978) المعروف بمناصرته المطلقة للفلسطينيين في صراعهم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، كما لا يُمكن فصله عن سيرة سليم رياض نفسه ورؤيته التي يتماهى فيها الفن بالنضال، هو الذي شارك في الثورة التحريرية الجزائرية (1954- 1962)؛ إذ كان عضواً في "فيدرالية جبهة التحرير الوطني" في فرنسا، واعتُقل هناك، قبل أن تنقله السلطات الاستعمارية إلى سجونها في الجزائر.

تنعكس تلك الرؤية، أيضاً، على مواضيع أفلامه التي أدانت الاحتلال الفرنسي للجزائر؛ مثل "تشريح مؤامرة" (1978)، الذي يُعدّ بمثابة محاكمة سينمائية لفرنسا الاستعمارية ومواجهة لها بتاريخها الدموي في مستعمَرتها السابقة، كما تتجلّى في رفضه الحصول على أيّ تمويل فرنسي، معتبراً أن ذلك سيكون خيانةً لمشروعه الفكري.

وُلد سليم رياض في مدينة بوسماعيل، غربَي الجزائر العاصمة، عام 1933. بدايته مع السينما كانت من مجال التصوير، قبل أن يُسافر إلى فرنسا. مع بداية الستينيات، تحديداً، في عام 1963، بدأ الإخراج السينمائي عبر مجموعة من الأفلام القصيرة؛ مثل: "الموظّفون التائهون" و"الشمس ومتّيجة".

في نهاية الستينيات، أخرج أول أفلامه الروائية الطويلة: "الطريق" (1968)، تلته مجموعةٌ من الأعمال الأخرى؛ من أبرزها: "سنعود" (1972)، و"ريح الجنوب" (1975) التي اقتبسها عن رواية للكاتب الجزائري عبد الحميد بن هدوقة (1925 - 1996) بالعنوان نفسه، و"تشريح مؤامرة" (1978)، و"حسان تاكسي" (1982). وقد كتب سيناريوهات تلك الأعمال بنفسه.

إلى جانب اشتغاله في الإخراج، تولّى سليم رياض منصب المدير العام لـ "المركز الجزائري للفن والصناعة السينمائية"، وكان عضواً في "أضواء"، إحدى الجمعيات السينمائية البارزة في الجزائر.

ارتبط اسم رياض بفترة السبعينيات. وككثير من مخرجي "العصر الذهبي" للسينما الجزائرية، توارى عن المشهد بشكل مفاجئ؛ حيث توقّف عن الإخراج لفترة طويلة لم يُقدّم خلالها أيّة أعمال جديدة، رغم أن حقيبته ظلّت مليئة بالمشاريع السينمائية؛ من بينها فيلم "العربي بن مهيدي"، الذي لم يُكتب له إخراجه، فقد أُسندت المهمّة، في وقت لاحق، إلى أحمد راشدي.

في أحد حواراته الصحافية القليلة، التي أجراها قبل سنوات، تحدّث رياض مجيباً عن سؤال حول أسباب غيابه عن المشهد السينمائي قائلاً: "مازلتُ موجوداً، ومازلتُ أناضل"، لكنه لم يلبث أن أضاف بنبرة كشفت عن غصّة: "حين تركونا نعمل، عملنا وقدّمنا أشياء كثيرةً. أمّا اليوم فالأمر يختلف؛ الإنتاج السينمائي أصبح صعباً، ولا أظنّ أنّنا مازلنا قادرين على إنتاج عمل كفيلم "سنعود"، ليس لقلّة المخرجين أو الفنانين، ولكن لأن محيط العمل لم يعد صالحاً".

محمد سْليم رياض لم يُعد إلى بوسماعيل. رحل ودُفن في صمت بعيداً عنها، حتّى إن خبر رحيله لم يُعلَن إلّا بعد أربعة أيام، من دون أن تصدر تعزية من أية جهة رسمية.