وصلت المعلّقات السبع إلى اللغة التركية في العام 1943؛ حين أنجز محمد شرف الدين يالتقايا (1879 - 1947)، ثاني رئيس لمنظّمة الشؤون الدينية في أنقرة، ترجمةً نثرية لها، لكنّها كانت أقرب إلى ترجمةٍ لشروح الحسين بن أحمد الزوزني (القرن الخامس الهجري) للمعلّقات، منها إلى ترجمةٍ للقصائد الشعرية نفسها.
قبل أيّام، صدرت عن "دار قرمزي كيدي" في إسطنبول أوّلُ ترجمةٍ شعرية للمعلّقات السبع إلى اللغة التركية أنجزها الباحث والمترجِم التركي محمد حقّي صوتشين؛ حيثُ جاء الكتابُ في 176 صفحة، وتمّ تصميمُ كلِّ صفحة من المعلَّقات باللغة العربية موازية للترجمة التركية.
ليس نقلُ نصوصٍ شعرية كلاسيكية إلى لغةٍ أُخرى أمراً سهلاً، خصوصاً إذا كانت هذه النصوص تحتوي الكثير من المفردات التي تتطلّب شروحاً حتى بالنسبة إلى القارئ العربي، كما هو الأمرُ في المعلّقات التي كثيراً ما تأخُذ فيها الهوامش مساحةً أكبر من المتن نفسه.
وحول ذلك يقول صوتشين في حديث إلى "العربي الجديد": "تعبتُ كثيراً على النصوص لأنقل مضامينها إلى اللغة التركية، إلى جانب إبداع الشعرية في النسخة المترجَمة؛ حيث ترجمتُها وفق نظام الأبيات، وخلقِ موسيقى داخلية ووضع قوافٍ سلسة للأبيات الشعرية في اللغة التركية. وقد استفدتُ من شرح الزوزني والنحّاس والأنباري والشيباني لفهم الكلمات والعبارات الغريبة".
وعن دوافعه لترجمة المعلّقات السبع، يوضّحُ أستاذ الأدب العربي في "جامعة غازي" بأنقرة بأنَّ كثيراً من الشعراء الأتراك البارزين كانوا يكتبون له ويحثّونه على ترجمة المعلّقات، بعدما اطّلعوا على ترجماته لابن حزم الأندلسي من الأدب العربي الكلاسيكي، ولأدونيس ومحمود درويش وشعراء عرب آخرين معاصرين، مضيفاً: "كنتُ أُترجم عدداً من الأبيات كلّما أجد وقتاً لذلك. لكن خلال فترة الحجر الصحّي التي فرضها فيروس كورونا المستجدّ، تفرّغتُ للترجمة ورحتُ أعمل ليلاً ونهاراً لإكمالها".
هنا، يشير صوتشين إلى أنّ الترجمةَ حقّقت، بعد صدورها، إقبالاً جيّداً من قرّاء التركية، وكذلك مِن الكتّاب والشعراء والمثقّفين في تركيا، معلّقاً: "هذا أمر يُسعدني، لأنّ الترجمة تُعرّف بنصٍّ عربي عريق لقارئ اللغة التركية. أتمنّى أن يكون نصّاً يُضاهي إلياذة هوميروس في تركيا من حيث المعرفة والقراءة".
ينقلنا هذا الحديث لنسأل المترجم والمستعرب التركي عمّا إذا كانت هناك جهة تركية أو عربية قد موّلت هذه الترجمة، فيجيب: "لم أتلقّ أي تمويل من جهة عربية ولا تركية. قمت بكل ترجماتي إلى حدّ الآن كعمل تطوُّعي للتعريف بالأدب والثقافة العربيَّين في تركيا".
أتمنّى أن تُضاهي المعلّقات نصّ الإلياذة في تركيا
ضمّت الترجمة تقديماً مطوًّلاً لأدونيس تحت عنوان "قراءة الشعر الجاهلي"، جمعها صوتشين وترجمها من كتاباتٍ متفرّقةٍ للشاعر السوري بموافقة أدونيس، ممّا جاء فيه: "الحقيقة التي توصلنا إليها في القراءة الجديدة لفترة الجاهلية، هي أن ما سُمّي الشعر الجاهلي - بنوع من الازدراء الضمنيّ، إنما كان شعرَ حضارة؛ كان شعراً يصدُر عن رؤية مركّبة، غنية، وباختصار: حضارية. وكانت تتقاذفه الأمواج نفسها التي تتقاذف شعر الحضارة. فهو أحياناً عقلانيّ، وأحياناً رومنطيقيّ؛ واقعيّ حيناً، وحيناً خياليّ؛ مؤتلف مع تقاليد الحياة حيناً، مختلف عنها، حيناً؛ قابل حيناً، متمرّد حيناً؛ مجنون حيناً، حكيم حيناً، منطقيّ حيناً، جامح وتخييليّ حيناً آخر. كان متعدّداً، ولم يكن واحداً. وهذا يعني أن شعرية القراءة تفترض من إعادة النظر في التاريخ الشعري، وفي القيمة الشعرية، وفي المفهومات - وفي دلالتي التقليد والتجديد".
يُذكَر أنَّ محمد حقي صوتشين من مواليد مدينة إغدير في تركيا عام 1970، تخرّج من قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة أنقرة سنة 1993، وحصل على الماجستير والدكتوراه سنة 2004 من "جامعة غازي" في أنقرة، حيث يعمل اليوم أستاذاً في قسم اللغة العربية.
أصدر صوتشين عدداً من المؤلّفات باللغة التركية؛ من بينها: "ترجمة الأخبار بين اللغتين العربية والتركية"، و"الكينونة في لغة أخرى: التكافؤ في الترجمة بين اللغتين العربية والتركية"، و"اللغة العربية بطريقة فعّالة"، و"الترجمة إلى اللغة العربية بالأمس واليوم".
كما ترجم أكثر من عشرين عملاً إلى اللغة التركية من الأدب العربي القديم والمعاصر؛ لكتّاب وشعراء مثل: ابن حزم الأندلسي، ويحيى حقّي، ومحمود درويش، ونزار قباني، وأدونيس، ونوري الجرّاح، ومحمد بنّيس. ومن بين ترجماته الأخيرة التي صدرت هذا العام: "كزهر اللوز أو أبعد" لمحمود درويش، و"هذا هو اسمي" لأدونيس، وفي 2019: "قارب إلى لسبوس" لنوري الجرّاح، و"طوق الحمامة في الألفة والألاف" لابن حزم الأندلسي. وتصدر له قريباً عن دار قرمزي كيدي ترجمة "جولة بين حانات البحر المتوسط" لعلي الدوعاجي.