محمد جلبي أفندي: مشاهدات السفير في باريس

05 نوفمبر 2014
خروج جلبي من قصر تويليري عام 1721 (بيير مارتان)
+ الخط -

عندما تسلّم إبراهيم باشا داماد منصب الصدر الأعظم في الدولة العثمانية نهاية العقد الثاني من القرن الثامن عشر، كان يملك رغبة صارمة، ستودي بحياته لاحقاً، بالتحديث والاتجاه نحو الدولة المدنية من بوابة الانفتاح على التجربة الأوروبية والاطلاع على سرّ قوتها وتقدمها.

أعطى تطمينات للدول المجاورة التي طالما اشتركت معها الدولة العثمانية في حروب طويلة، وحاول إقامة علاقات ودية معها، كما أرسل السفراء إلى العواصم الأوروبية. وقد كلّف هؤلاء السفراء عند عودتهم بكتابة تقارير مفصّلة كلٌّ عن رحلته، لتستفيد الدولة من مشاهداتهم في البلاد التي زاروها.

سيحمل محمد جلبي أفندي رسائل السلطان وهداياه إلى ملك فرنسا وكبار رجاله، في رحلة استمرت عاماً. وسيكتب تقريره عن رحلته في كتاب أطلق عليه "سفارة نامه فرنسا"، أي "كتاب السفارة إلى فرنسا". ولكنّ المترجم خالد زيادة و"دار رؤية"، ناشرة ترجمته العربية للكتاب، الصادرة أخيراً، قاما بتغيير عنوانه إلى "جنّة النّساء والكافرين"، لأسباب تجارية ربما، ووضعا العنوان الأصلي كعنوان ثانوي.

هذا ما سيصدم القارئ حين يجد أن مضمون الرحلة مخالف للعنوان الذي اختارته دار النشر. وعلى أي حال، فإن حديث الكاتب عن أن نساء باريس غير محجوبات عن الرجال، ويشاركن في الحياة العامة ويحضرن الحفلات وينزلن إلى السوق، وأن المرأة الفرنسية تتقدم الرجل في المسير؛ لا يبرّر استبدال عنوان الكتاب، خصوصاً وأن أغلب صفحاته تنشغل بوصف باريس، وعالمها الغريب عن عالم الكاتب العثماني، من قصور ومبانٍ وحدائق وجسور وطرق، أكثر من انشغالها بوصف نساء فرنسا و"كفارها".

دهشة جلبي بفرنسا، التي تتمظهر في شتى صفحات كتابه، قابلتها دهشة الفرنسيين برؤية هذا التركي الذي نزل بلادهم بلباسه وعاداته الغريبة عنهم. يقول جلبي: "كان الفرنسيون شديدي الفضول لرؤيتي. وقد جاؤوا من مسافة أربعة أو خمسة فراسخ في الجوار، لرؤيتي عند وصولي إلى الشاطئ". بل إن الوصي على عرش فرنسا آنذاك سيطلب منه، أثناء قدومه لزيارة الوصي، الركوب على الحصان بدلاً من العربة المغلقة، لأن الناس، كما كتب جلبي، تحبّ رؤية المسلم القادم من الشرق.

تكمن أهمية التقرير/ الكتاب بصفته أول نصّ عثماني عن باريس، يعاين الحضارة الغربية عن قرب، مكتوب بقلم دبلوماسي عثماني مكلّف بشكل رسمي من قبل الصدر الأعظم. كما يضعنا هذا النصّ أمام قدرة جلبي العالية على الوصف والتفصيل بطريقة شيّقة. جلبي يشير إلى الحفاوة والترحيب اللذين حظي بهما في ضيافة ملك فرنسا. ويصف وصول موكب الملك ودخوله باريس بأنه أجمل موكب شهدته فرنسا، التي كانت في طريقها لتصبح "جنة العلم والحضارة".

كان لهذا الكتاب تأثير واسع على العثمانيين، بعد عودة جلبي إلى بلده. إذ شرعت الطبقة الحاكمة في إسطنبول، بحسب المقدمة التي صدّر بها خالد زيادة ترجمته، بتغيير نظرتها إلى الغرب، بعد الاطلاع على ما كتبه جلبي. فبعد أن كان الغربيون، في نظر العثمانيين، "أمة كافرة" لا يجوز التشبه بها، أصبحوا محلّ إعجاب، وراح العثمانيون يحاولون تقليدهم ومعرفة أسرارهم.

يضاف إلى ذلك التأثير الذي أحدثه هذا النصّ في ما يخص العادات والتقاليد وفنون العمارة؛ إذ قام الصدر الأعظم بالإشراف على بناء قصر جديد للسلطان، على طراز القصور الفرنسية التي جاء وصفها في الكتاب، سيعرف باسم "قصر السعادة".

كما سيمتد تأثير العمارة الفرنسية إلى المدارس والبيوت وحتى المساجد. وعلى أي حال، فإن مساعيه في نقل التجربة الغربية إلى بلده لن تدوم طويلاً، إذ سيأمر السلطان العثماني بإعدام الصدر الأعظم، إبراهيم باشا داماد، منهياً بذلك إحدى المحاولات العثمانية القليلة للتحديث.

المساهمون