قصّةُ مَنشأ محمد بن عُمر التونسي (1789 - 1857) غير مُعتادة في تاريخ الأدباء واللغويّين؛ فقد وُلد لِأبٍ تونسيّ وأمّ مصريّة نهاية ثمانينيات القرن الثامن عشر، حين كان التواصل بين الولايات العثمانية عسيرًا والزيجات المختلطة نادرةً. وما لبث أن انتقل والداه إلى القاهرة، وفي أروقة الأزهر تفتّقت ملكاتُ الطفل الأدبيّة.
سافر سنة 1803 إلى دارفور وبقي يجوب سباسبَ القبائل الأفريقيّة والعربية بحثًا عن والده الذي سبقه إلى هناك. وما إن التقى بِه حتّى لزمه وعملَ معه إلى سنّ العشرين. ومنها عاد إلى تونس، مَسقط رأسه، قبل أن يستقرَّ نهائيًا في القاهرة ليشغَل خِططًا علميّة ودينية؛ مثل التصحيح اللغوي في مجلّة "الوقائع المصرية"، التي كان يُشرفُ عليها رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873)، وتنقيح الترجمات العربية لكتب الطبابة التي كانت تُدرَّس في "مدرسة الطبّ" بأبي زعبل، التي أنشأها أطبّاء فرنسيّون بطلبٍ من محمد علي (1769 - 1849). وختم حياته بإلقاء دروسٍ دينية في مسجد السيدة زينب، قبل أن يُتوفّى سنة 1857.
خلال هذه المسيرة، خاض التونسي في حقول معرفيّة متنوّعة، ساعدته في ذلك طلاقة في التعبير وتمكُّنٌ من تصاريف الضاد مُعجمًا ونظمًا، فضلاً عن تجربة اجتماعية ثرّة، منها مغادرة أبيه صغيرًا ومخالطة العلماء الفرنسيّين وسلاطين السودان والعمل مع رجال النهضة الأوائل. فكان من نتائج هذا التقلّب بين العلم والسياسة عددٌ من الكتب أهمها "الشذور الذهبية في المصطلحات الطبّية"، الذي طُبع الجزء الأول منه ولا تزال بقيته مخطوطةً بدار الكتب المصرية.
صاحب إسهام كبير في الإحياء الثقافي والتحديث العلمي
فقد أراد الطبيب الفرنسي نيكولا بيرون (1798 - 1876)، مدير "مدرسة الطب" التي قَدِم إليها في 1832، أن يضمّ إلى مُعجمه الطبي المصطلحاتِ الطبيّة العربية القديمة. فالتمس من الأساتذة ترجمةَ قاموس الفيروزآبادي وأشركَ مُصحّحي المدرسة في العمل عبر استخراج كلّ لفظ دالّ على الأمراض أو الأعراض وأسماء النبات والحيوان. وكَلّفَ التونسيَّ باستخراج ما في "كتاب القانون" لابن سينا و"تذكرة داود" الأنطاكي من مصطلحات طبية وأسماء عقاقير وأدوية. فرتّب التونسي ما جَمعه من المصطلحات على حروف المعجم. تكمن أصالة هذا العمل في تأثيل المصطلح الطبي والبيطري العربي وتشذيبه وتدقيقه في مرحلة كانت العربية فيها حبيسة المفردات الضيقة لطب تجريبي ساذج ولوصفات خرافيّة غير ناجعة.
ومن بين الكتب الفرنسية التي تمّ نقلها آنذاك إلى العربية وقام التونسي بتصحيح مفرداتها وتدقيقها "الدور اللامع في النبات وما فيه من الخواص والمنافع"، و"كنوز الصحّة ويواقيت المِنحة"، و"روضة النجاح الكبرى في العمليّات الجراحيّة الصغرى"، و"الدرّ الجوّال في معالجة أمراض الأطفال". ولنا أن نتخيّل معاناة هذا المحقّق مع كتب الطب التراثية، وجلّها مُترجَم عن الإغريقية في عهد "بيت الحكمة"، لإيجاد مقابلات لما استجدَّ في مجال الصحة والطبّ من تطوراتٍ. وكم اجتهد الرجل في التثبّت من كلِّ مقابلٍ تَرجم به أطباء مصر الأوائل ما يتداولونه في مدرستهم الفتيّة.
ومن أعماله أيضًا رحلة "تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان" (1845) الذي كتبه بإيعاز من الطبيب الفرنسي بيرون نفسه، وهو الذي تَرجمها إلى الفرنسية ضمن جهوده في نشر المخطوطات العربية في الطب والجغرافيا والرحلات. ويؤكّد التونسي أنَّ غرضَها لم يكن الدراسة ولا الاستطلاع، وإنما الالتحاق بوالده وجدّه، اللذين سبَقاه إلى دارفور واستقرّا هناكَ وتزوّجا من أهلها. أراد البحث عن والده والتعرّف على مواطن أخواله، فاستعادَ سفرَه ليقدّم أكمل وصفٍ عن السودان. وقد كُتبت الرحلة بعدَ أكثر من ثلاثة عقود من تاريخها؛ إذ زار السودان وله من العمر 14 عامًا.
أمّا الكتاب ذاتُه فوصفٌ دقيق لمنطقة دارفور وجغرافيتها وعادات ملوكها البسيطة، وتقاليد الزواج، والخصيان الذين يعيشون في البلاط، والأكل والصيد والحيوانات والعملات والنبات وممارسات السحر والتنجيم... وصفٌ شيّق لصقع أفريقي قُبيْل مجيء الاستعمار الغربي. أسلوبه رائقٌ، يستحضر أسماء تلك الحَضارة بدقَّة ونصاعة.
وفي سنة 1951، صدَر له، في باريس، كتاب "الرحلة إلى وَادَاي" (752 صفحة)، الذي ترجمه الطبيب بيرون نفسه. ومع الأسف ضاع أصله العربي. وهو كتابٌ عن جغرافية هذه الجهة وعادات أهلها. ولم يفارقه فيه الهاجسُ اللغوي، إذ ختمه بثبتٍ للكلمات الفورابية وما يقابلها من العربية. ونُهيب هنا بباحثينا الشباب أن يُعيدوا ترجمته إلى العربية ليَظفر قرّاؤُها بكنز عن هذه المنطقة في تلك الفترة.
خَصَّص كلّ طاقاته لتطوير العربية خصوصاً في مجال الصحّة
كما كان لهذا اللغوي إسهام كبير في الإحياء الثقافي والتحديث العلمي الذي شهده عصر النهضة في بداياتها، فقد نشط في مراجعة الكتب العربية القديمة التي طُبعت بمطبعة بولاق آنذاك؛ ومنها: "مقامات الحريري" و"المستطرف" للأبشيهي. كما كان له الفضل الأكبر في تصحيح "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (1329 - 1415)، وذلك بعد مراجعة نسخة كِلكتا الهندية على المخطوطات السبع لهذا المعجم الأساسي، وهو ما يُعدُّ وقْتَها أكبر عملية إحياء للضاد وتحقيق لكنوز تراثها المغمورة في الأصقاع.
هكذا، قضى هذا المحقّق بياضَ أيامه وسواد لياليه يتأمّل الحروف الحجرية المنقوشة على الصفحات الصفراء، يُتابع تعاريجها ويلاحق تمايلها ثم يراجع عنها ذاكرتَه ويرصد معانيها مُحقِّقًا رسْمها ومآلاتها، متّكئًا في ذلك على ما حَفظه من المتون في رحاب الأزهر وما سمعه في مدرسة الألسن من محاضرات، يراجع دلالات الجُمل التي تَتْرى أمام ناظرَيْه الكليليْن بفعل التصحيح.
كما ترك التونسي العديدَ من الأشعار ذات الأغراض التقليدية في المدح والشكوى والنسيب وفي مادة الألغاز والأحجية اللغوية، بما أنه كان متضلّعًا في مفردات الضاد حدَّ العبث بها والترفيه عن نفسه وقارئيه بتصاريفها.
كأنما سيرةُ هذا العالم بحثٌ عن الأب، فلا غرابة أن نرى صورته تتشقّق فتشمل والدَه، الذي جاب مَهامِهَ مصرَ والسودان بحثًا عنه، وتشمل أيضًا نسبَ الضاد في صفائه. خَصَّص كل طاقاته لتطوير العربية وتأثيل الضاد في أولى أدوار حضورها في العصر، ولا سيما في قطاع الصحة، تجذيرًا لهذا القطاع ضمن هواجس التحديث.
إنّ سيرة هذا اللغوي مثالٌ حيٌّ عن مدى ثراء بدايات النهضة، وعن حجم العمل التحقيقي الذي أُنجز وبقيَ مجهولاً، مغموطَ الحقّ. فلا شكَّ أنّ مدوّنته تحتاج إلى دراسة أعمق باعتبارها عاكسةً لأولى مَسارات تطوير اللغة العربية. ولا تخفى قيمة الجهد الدؤوب الذي قام به جنديًّا في الخفاء. فنسْخُ الكتب وتَصحيحُيها مهنة عاقّة، سمّاها التوحيدي "مهنةَ الشؤم"، لأن المشقّة فيها كبيرة والجزاء قليل. قضَّى فيها التونسي سنيَّ عمره رائدًا من روّاد التحديث، بيدَ أنه غُيِّب من التأريخ الرسمي، بعد أن غَطَّت عليه شهرة مُجايليه، كالطهطاوي، وما هو عنهم ببعيد.