آسرةٌ تلك الملامح الهادئة والعينان النفّاذتان للبدويّ الأسمر القادم من شرقِ النهر كنبوءةٍ ليموت قرب الساحل غربه.
محمد حمد الحنيطي لم يكن شخصاً عادياً رغم أن كثيرين يجهلونه تماماً لتواطؤ مزدوج. فالرجل يدحض أكاذيب كثيرة بسيرته التراجيدية المكثّفة، تأتي على رأسها أكذوبة "الهوية" وإرهاصاتها الأردنية/الفلسطينية المعروفة. ثمة عبرةٌ لمن يعتبر في ما أبرقه بن غوريون إلى الملك عبدالله الأول بجملةٍ واحدة: "قائد عصابات حيفا شرق أردني.."، وعبرةٌ أخرى في محاولة غلوب باشا، قائد الفيلق العربي ـ جيش البريطانيين من العرب ـ إفهام الحنيطي ما صار اليوم نشيدنا الوطني المقدّس، لكن الرجل كان أَفهم منّا، ولم يفهم.
سخريةٌ أن يتحوّل ما تواطأ عليه الاستعمار وزبانيته إلى حقيقة تاريخية، بينما يتنحّى التاريخ الحقيقي جانباً ويخجل من نفسه. لكن ثمّة أمل قد يطلّ من ثقوب الموضوعية الضاغطة بثقل أكبر من كل الأوهام: فما كتبتُه ـ مُتخيّلاً ـ على لسان الحنيطي لحظة اعتزل نهائياً خدمة بريطانيا العظمى وصنائعها الجيوسياسية، صار يُتناقل ويُقتبس كأنه مقولةٌ حقيقية سمعها مؤرّخ ودوّنها في أسفاره، أُرودها الآن إمعاناً في تزوير التزوير، وهي من مجموعتي القصصية "الفوضى الرتيبة للوجود" (دار الفارابي، 2010):
"أنتَ أُردني يا محمد بيك، مالَك والفلسطينيين؟" قال له غلوب وهو يُلَوّح بتقارير جواسيسه في الهواء. "يا باشا، أنتم من رسمتم حدود هذه البلاد، قَبْلَكُم ما كانت فلسطين ولا الأردن ولا لبنان ولا سوريا. قَبْلَكُم كنّا نَشْتَري من أسواق دمشق، ونُشَتّي على ساحل المتوسّط. يا باشا، دفاعي عن حيفا هو دفاعٌ عن قريتي أبو علندا. هاكَ رُتَبَك، فرُتَبُ الثوّار أعلى".
ومثلما لم يرضَ غلوب عن هذا الكلام، فهو لن يُعجب بن غوريون أيضاً، ولا السلطة في الأردن، ولا السلطة الفلسطينية. من يريد رجلاً يفضح بسيرته زور الكيانات السياسية والهويات الوطنية التي صنعها الاستعمار؟ من يريد رجلاً يخلع رتب جيش نظاميٍّ بامتيازاته ليرتدي أسمال قيادة الثورة ومخاطرها؟ من يريد رجلاً مات على تخوم النكبة وهو يذود بالأسنان والأظافر عما صار اليوم جزءاً من دولة "إسرائيل" بحسب اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة والشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة؟ من يريد استعادة ذكرى رجال الجبل المزنّرين بالرصاص الذين قاوموا النار بالنار في عصرٍ صاروا فيه إرهابيين ينبذون حالاً بتوقيعٍ سريعٍ على نماذج طلب تلقّي التمويل من المانحين؟
تحكّ رأسك كثيراً وأنت تقرأ قائمة أسماء من ماتوا معه في الكمين: أردنيون ومصريون وفلسطينيون، وألبير الأرمني. ألبير كان يقود شاحنة الأسلحة والمتفجّرات ضمن القافلة التي هاجمتها قوات الـ"بالماخ" يوم 17/3/1948 (قبل النكبة بشهرين) على مفرق مستوطنة كريات موتسكين قرب حيفا. وأغلب الظن أن ألبير انقسم إلى مئات القطع لأن شاحنته فُجّرت بحمولتها حتى لا تقع بأيدي الصهاينة، مثلما ننقسم الآن إلى آلاف القطع الإثنية والطائفية والقومية والوطنية والجهوية والدينية والمناطقية والعشائرية، ونعرف أن نكبتنا صارت اثنتين.
يقول الإسرائيليون في روايتهم الرسمية عن النكبة، أن مقتل الحنيطي كان "الضربة الأعظم التي نزلت بالعرب في حيفا،" فيما يقول بني موريس أن موت الحنيطي "كان له أثر كبير في انهيار معنويات المقاومة المسلحة في حيفا"، بينما يورد أرشيف الـ"بالماخ" الإلكتروني أن هذا الأمر هو الذي ساعد على احتلال المدينة بالكامل بعد شهر.
من يزور قبرك الآن يا قائد العصابات القادم من أبو علندا؟ قبل أيام أرسل لي الصديق نضال الزغيّر رسالة من الداخل يقول فيها: "كنت معي اليوم. كنا معاً مع الحنيطي في مكان استشهاده، وقرأت من نصّك في المكان". نبتت دمعةٌ في عيني وأنا أرى كيف تتحوّل الجغرافيا الصمّاء إلى قيمة عظيمة حين تُستبدل بالمفاهيم الكبرى عن العدالة والحريّة، وكيف يجتاز الرجال والنساء حاجز الفناء حين يقدّمون لهذه المفاهيم من حيث يعلمون أو لا يعلمون.
عندما ننظر في وجه هذا الرجل الميّت، ستلتبس علينا حدود القبر، وساكنيه.
* كاتب من الأردن