محمد الباز... أسطوانة لا تكفّ عن الدوران

16 فبراير 2020
لديه تسجيلات تنتمي إلى عصر النهضة (عبد الرحمن الطويل)
+ الخط -
خلال السنوات العشر الماضية، وبعد أن فقدت مصر قدراً كبيراً من تراثها الفني المسجل على أسطوانات، أصبح منزل محمد الباز، أستاذ طب الأطفال في جامعة القاهرة، مقصداً لكل باحث أو دارس أو هاوٍ للطرب القديم الذي حفظته الأسطوانات منذ السنوات الأولى للقرن العشرين.
رحلة الباز مع جمع التراث الغنائي والموسيقي امتدت عبر أربعة عقود، كوّن الرجل خلالها مكتبة فنية ضخمة، تجاوزت ثلاثة آلاف أسطوانة، يجاورها 34 جهاز فونوغراف مختلفة الطرز والأشكال والأعمار.

وبعد أن باع ورثة المؤرخ الفني عبد العزيز عناني، مكتبة والدهم التي كانت تضم أكثر من سبعة آلاف أسطوانة لإحدى المؤسسات الموسيقية خارج مصر، أصبحت مجموعة الباز من الأسطوانات هي الأكبر في القطر المصري.

نشأ الباز في بيئة علمية، فوالده أستاذ جامعي، تدرج في السلك الأكاديمي حتى أصبح رئيساً لجامعة المنصورة، لكنه أيضاً كان مهتماً بالغناء والطرب، وإن قصره على صوتي أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب فقط. امتلك الوالد جهاز فونوغراف واحداً، مع جهاز واحد للتسجيل على "شرائط البكر".

ربما كان هذا الاهتمام سبباً في لفت انتباه الابن محمد إلى عالم الطرب وسحره، حتى وقعت قدمه في فخ الغرام بالأسطوانة، فاشترى أول نسخة منها بداية ثمانينيات القرن الماضي، من خلال "الحاجة زينب" الشهيرة بـ"زبدة"، التي كانت تعمل "ماكيرة" بماسبيرو، وتبيع الأسطوانات للهواة بأسعار معتدلة. كانت "زبدة" صادقة أمينة مع الهاوي الجديد، فنصحته بألا يدخل هذا العالم، لأن من يخطو فيه خطوة لا يكاد يتوقف بقية عمره. ظن الرجل أن النصيحة تحمل بعض المبالغة، ثم أثبتت الأيام أن الحاجة "زبدة" كانت على حق. فقد اندفع الباز إلى عالم الهواة والتجار والبحث عن النوادر. ومع الزمن، تراكمت لديه خبرة كبيرة في هذا الميدان الذي يلفه غموض لذيذ وسحر خفي.

نظر الباز إلى دولابين خصص أحدهما لأسطوانات عبد الوهاب، والثاني لأسطوانات أم كلثوم، وبادر قائلاً: "اشتريت أول أسطوانة بداية الثمانينيات، وكانت لعبد الوهاب، أحببت صوته جداً، وأحببت ألحانه التي تنمّ عن تفكير عميق. وأيضاً كنت مهتماً بأعمال أم كلثوم القديمة، مثل القصائد التي غنتها من ألحان الشيخ أبو العلا محمد، وطقاطيق أحمد صبري النجريدي، ومنولوجات محمد القصبجي القديمة. مع الأسف، نحن لا نسمع هذه الأعمال في الإذاعة أبداً. لن تصادف "أفديه إن حفظ الهوى" تبث في الإذاعة".

مع الوقت، التفت الباز إلى طرب عصر النهضة، وإلى زمن ما قبل تسيد أم كلثوم وعبد الوهاب المشهد الغنائي، فاجتهد في البحث عن أسطوانات عبد الحي حلمي، ويوسف المنيلاوي، وسيد الصفتي، وسليمان أبو داود، ومنيرة المهدية، وأمين حسنين، وعبد اللطيف البنا، وزكي مراد، وصالح عبد الحي، وفتحية أحمد، وغيرهم كثيرون من مطربي أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

ينبه الدكتور الباز إلى أن الأسطوانات كانت رخيصة الثمن، وتراوح أسعارها بين 10 جنيهات وعشرين جنيهاً مصرياً، لكنه يشير إلى أن السعر قد يتضاعف ليبلغ عشرة أمثاله إذا كانت الأسطوانة نادرة، ويعلم التجار أنها مرغوبة للهواة. أما اليوم، وبعد أن شحّت الأسطوانات، وكادت تختفي من مكان بيعها، فقد ارتفع سعرها إلى 500 جنيه إذا كانت لأغنية متاحة على شبكة الإنترنت، أو تبثها الإذاعات، أما إن كانت لعمل نادر أو مفقود من أغاني أم كلثوم أو عبد الوهاب، فقد يصل سعرها إلى عدة آلاف من الدولارات، ويظل الحصول عليها شديد الصعوبة، حتى مع استعداد الهواة لدفع مبالغ طائلة.

حديث الباز عن عملية الجمع التي تجري عبر البيع والشراء دفعتنا إلى أن نسأله عن مصادر الحصول على الأسطوانات، فأوضح أن الهواة كانوا يتعاملون مع عدد محدود من "جلاب الأسطوانة"، يذكر منهم أحمد حسين في منطقة الظاهر بالقاهرة، وكان يملك مجموعة أسطوانات مهمة لا يعرف أحد مصيرها بعد أن توفي الرجل من عدة سنوات، كما يذكر عم جرجس، وهو تاجر كان يتمتع بخبرة وفهم، وعلى دراية واسعة بتاريخ المطربين والمطربات، وكان المصدر الأول للحصول على أعمال المطربة لور دكاش. وبالطبع، كانت الحاجة "زبدة" من أهم مصادر حصول الباز على الأسطوانات، وكانت تجمعها من بائعي "الروبابيكيا" بمقابل زهيد، لأن هؤلاء البائعين كانوا يجدونها ضمن المقتنيات القديمة التي يشترونها، ولا يعرفون كيف يتصرفون يها.

يشير الباز إلى أن المقابل المادي كان يدفع لأسطوانات الغناء العربي فقط، أما أسطوانات الغناء الأجنبي، فكان التجار يمنحونها هدية لزبائنهم، لأنها لن تباع بأي سعر مهما كان رخيصاً، وكان زهد الهواة فيها بلا حدود.

يندهش من يطالع أسماء الأغنيات المدونة على أغلفة الأسطوانات في مكتبة الباز، من أن بعضها من الأعمال المعروفة التي تبثها الإذاعات، ما يثير تساؤلاً عن سبب اقتناء أسطوانة لأغنية متاحة عبر الأثير ومواقع الإنترنت. يبدد الرجل تلك الدهشة سريعاً فيقول إن "استماع الأغنية من الأسطوانة له وقع خاص مختلف، لا نجده عندما نستمع إليها من الراديو أو من شريط كاسيت أو عبر نسخة إلكترونية، لذلك حرصت على جمع أسطوانات كثير من الأغنيات الإذاعية، واكتشفت أن بعضها - على شهرته - نادر جداً إذا طلبته مسجلاً على أسطوانة".

ويضرب محاورنا مثالاً صارخاً لهذا النوع من الأسطوانات بأغنية أسمهان الشهيرة "ليالي الأنس في فيينا"، فيقول: "سجلت الأغنية على أسطوانتين، كانت الأولى منتشرة، سهلة المنال، ورخيصة الثمن، أما الثانية فكانت شبه معدومة، يصعب جداً أن تجدها، وكان تجار الأسطوانات يعلمون هذا، فكان من يحوزها منهم يطلب فيها ثمناً غالياً".

بالطبع، إن مجموعة الأسطوانات الكبيرة التي يمتلكها الباز تغلب عليها قوالب الغناء الكلاسيكي، من دور وموشح وقصيدة وموال، لكنها لم تخلُ من ألوان أخرى يوضحها الرجل قائلاً: "لدي كثير من أسطوانات الموسيقى الآلية، سماعيات وبشارف ومؤلفات حرة، وكذلك أسطوانات "المارشات" مثل مارش الملك فاروق، ومارش الخديوي عباس حلمي، ومارش مصطفى كامل، وأيضاً توجد أسطوانات لخطابات الملك فاروق، ومنها أسطوانة بوجهين، على أحدهما أغنية لأم كلثوم، وعلى الثاني خطاب للملك، ولا ننسى أسطوانات الإنشاد الديني، مثل قصائد الشيخ علي محمود والشيخ إبراهيم الفران".

يوضح الباز أنه امتلك بعض الأسطوانات لأعمال لا يحبها، ولا يهتم بسماعها، مثل أسطوانات ما يعرف بـ"القافية"، ومنها قافية النجارين، وقافية السقايين، وقافية المبيضين، ومنها أسطوانات "الردح" التي تحمل شتائم وبذاءات، لمشاجرات النساء في بعض المناطق الشعبية قديماً. يبرر الرجل حرصه على شراء مثل هذا النوع من الأسطوانات بأنها تكمل صورة الأشكال الفنية التي سادت في حقبة زمنية معينة، ولأهميتها عند المهتمين بالبحث والتوثيق والتأريخ الفني والاجتماعي.

ولأن الأسطوانة وحدها لا قيمة لها من دون جهاز يستخرج صوتها ويستنطقها بما تحمل من روائع الفن، اهتم محمد الباز كثيراً بأجهزة الفونوغراف، واقتنى منها عدداً كبيراً. وعبر عقود، حرص الرجل على شراء بعض أنفس الأجهزة وأندرها، وعلى رأسها الفونوغراف الخاص بالإذاعي محمد فتحي، وهو جهاز أهداه الملك فاروق لفتحي، وقد صنع من أخشاب نفيسة، ونقشت عليه علامات الستائر الملكية.

يعتز الباز كثيراً بالفونوغراف الذي ورثه عن والده، ويكاد يقصر سماعه للأسطوانات عليه، وهو جهاز عتيق، وصوته صافٍ. يتذكر الرجل أول فونوغراف اشتراه، وكان فيه عيب تمكن العم جرجس الخبير من إصلاحه، ثم توالت الأجهزة بأنواعها المختلفة، فمنها ما هو يدوي، ومنها الكهربائي، ومنها ما يصدر صوته عبر بوق ضخم جميل، ومنها ما يعمل من دون بوق. وأيضاً، لديه أجهزة لتشغيل شرائط البكر، و"السلك المعدني"، وكل هذا يتناثر في قاعة كبيرة تزدحم بالتحف والأنتيكات، يشعر من يدخلها بأنه انتقل عبر الزمن إلى قرن مضى.

على غير عادة أكثر الهواة الذين يتلذذون باحتكار ما جمعوه من نوادر التسجيلات، أتاح محمد الباز مكتبته للجماهير، من خلال تحويلها كلها تقريباً إلى نسخ إلكترونية، ونشرها في المنتديات الموسيقية على الإنترنت، لتصير مكتبته من أهم مصادر التعرف إلى طرب عصر النهضة، وكثير من تسجيلات أم كلثوم الأسطوانية أو المحفلية. يرى الرجل أن نشر التراث الفني وإتاحته لمن يريد، وتعريف الأجيال الجديدة به، أفضل ما يمكن أن يقدمه لخدمة هذا التراث، وينبه إلى أن كثيراً من المكتبات الكبيرة تلفت بالإهمال وسوء الحفظ، أو ألقاها ورثة صاحبها في صناديق القمامة لجهلهم التام بأهمية محتواها، أو حتى باعوها لمن يحبسها عن الجماهير ليفتخر باحتكارها.

يروي الباز تجربة مريرة عاينها بنفسه مع مكتبة الأسطوانات التي تملكها دار الكتب المصرية، وعددها يجاوز أربعة آلاف، مكدسة في أدراج وأرفف، من دون أرشفة حقيقية لمعرفة محتواها الذي يؤكد الباز اشتماله على تسجيلات لم يسمعها أحد، ولم تتح للمستمعين وهواة الطرب الكلاسيكي، ولا حتى للباحثين أو الدارسين منهم. ويتذكر الرجل أنه وجد هناك إحدى الأسطوانات، وفيها شرخ بسيط يمكن ترميمه، فنبه الموظفة المختصة إلى العيب الذي اكتشفه، فأخذت منه الأسطوانة وألقت بها بعيداً، فارتطمت بالأرض وتحطمت تماماً. يضيف الباز بأسى بالغ: "كانت الأسطوانة للشيخ يوسف المنيلاوي، الذي رحل عام 1911، أي إن عمرها تجاوز القرن".

يرى محمد الباز أن تاريخ الأسطوانة لم يكتب بعد، وأن هذا الميدان ما زال بحاجة إلى البحث والدراسة الوافية العلمية لتاريخ شركات الأسطوانات في مصر، وحجم إنتاجها، وأعداد ما أصدرته لكل مطرب ومطربة، وكيف بدأ اندثار الأسطوانة، ورصد الجهود الفردية للجمع والتوثيق، وأساليب التجار في البيع والشراء، ودور الهواة الأثرياء العرب في نقل جانب كبير من التراث الموسيقي والغنائي المسجل إلى خارج مصر، وأثر هذا على الهواة ومحبي الطرب وأسعار بيع الأسطوانات. يقول: "لا نعرف حتى الآن نسبة ما ظهر من تسجيلات إلى ما لم يظهر، وقد يكون ما هو مخزون ومخبأ كبيراً جداً".

يمارس الباز حياته الأكاديمية والمهنية، فيذهب إلى كلية الطب صباحاً، ويكون في عيادته الخاصة مساءً. لكن إجازة نهاية الأسبوع تكون دوماً مخصصة لهواياته، وعلى رأسها الاستماع والاستمتاع بكنوز الطرب التي يملكها. يستقبل الرجل ضيوفه من الهواة والباحثين والصحافيين، الذين يقصدونه من مصر وخارجها، للاطلاع على محتويات تلك المكتبة الموسيقية الكبيرة الفريدة. فإن خلا من الزوار، جلس بين كنوزه وحيداً، وسحب إحدى أسطواناته، واستخرج لها إبرة جديدة، وملأ الفونوغراف، لينساب منه صوت مطربه الأثير عبد الحي حلمي، وهو يتفنن بالآهات والارتجالات، ليسكب في نفسه طرباً على طرب.

من الصعب جداً، بل من المستحيل، على من يطالع أكوام الأسطوانات التاريخية، وعشرات من أجهزة الفونوغراف لدى هذا الهاوي الشهير، أن يصمّ أذنيه عن السؤال المدوي: أين تذهب هذه الكنوز الفنية؟ وما مصيرها بعد عمر طويل؟ ولأنه حتى هذه اللحظة لا توجد في مصر جهة مسؤولة عن حفظ التراث الموسيقي وتوثيقه وأرشفته ليكون متاحاً للدارسين والهواة، ولأن التجارب مريرة مع البيروقراطية الحكومية وتعامل الموظفين الذين لا يعرفون شيئاً عن الحامولي أو محمد عثمان أو المنيلاوي أو سيد الصفتي، ولأنه ليس من بين أبناء الباز أو أفراد أسرته من يشاركه هذه الهواية، فإن الرجل لم يتردد في الإجابة: "كل هذا سيلقى في الشارع".

دلالات
المساهمون