محمد أبو خضير ورفيقاه

10 أكتوبر 2014
+ الخط -

شغلتني قصة قتل الطفل محمد أبو خضير، من شعفاط في القدس، على أيدي خمسة مستوطنين، يقودهم حاخام يهودي من المستوطنين، منذ حدوثها في 2 يوليو/ تموز الماضي... خُطف الطفل من أمام دكان أبيه فجراً، ووجدت جثته في خراج قرية دير ياسين الشهيرة، التي قتل فيها 360 فلسطينياً على أيدي عصابات الهاغانا وشتيرن عام 1948، وتبين أنه قُتل بسكب البنزين في جوفه، وعلى جسده الصغير، وأشعلت فيه النار، وهو على قيد الحياة. لم تصور كاميراتٌ المشهد الوحشي، مثلما حدث مع طفلين فلسطينيين آخرين، هما محمد الدرة الذي قتل بالرصاص في غزة في 30 سبتمبر/ أيلول عام 2000، وفارس عودة الذي قتلته دبابة إسرائيلية، كان يقذفها بالحجارة في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه.

بقيت واقعة قتل محمد أبو خضير حرقاً، مادة ماثلة في ذهني، فمقتله يستدعي كل الرموز والأنساق السيكولوجية التي شكلت الشخصية اليهودية على مدار 75 عاماً، وهي حادثة تستحضر الماضي اليهودي، المرتبط بذاكرة المحرقة النازية ضد اليهود. وقد تعرّض اليهود في أوروبا لقتل جماعي بالغاز القاتل. وفي 1941، استنتج النازيون من تجاربهم أن وضع هؤلاء في مراكز القتل أنجع الطرق للوصول إلى "الحل النهائي"، وبذلك افتتح أول معسكر في "شالمو" في بولندا، حيث تم قتل هؤلاء في سياق ما وصفته النازية بـ"حل المسألة اليهودية".

كان مشهد مقتل محمد الدرة مادة غنية لإثارة الشفقة والتعاطف الإنسانيين في فلسطين والعالم، ما دفع إسرائيل إلى صياغة رواية واهية، تقول إن محمد الدرة قُتل برصاص فلسطينيين، أو إنه لا يزال حيّاً، وإن العملية فبركة إعلامية، لكن الميديا الغربية كذبّت الرواية الإسرائيلية.

أما المشهد الآخر، القريب إلى مشهد الصراع في الأساطير الإغريقية، أو أسطورة داود وجالوت، فكان بطله الطفل الفلسطيني، فارس عودة، الذي قدمته الكاميرا طفلاً يتحدّى دبابة إسرائيلية، تتقدم منه، فيتراجع، ثم يتقدم منها، وهكذا إلى أن ضاق الجندي المدجج بالفولاذ ذرعاً بصورة البطل الطفل أمامه، وقتله بالرصاص.

لطالما كانت صورة فارس عودة مثيرة للخيال البطولي، والاعتزاز الوطني لدى الفلسطينيين، ولطالما عبّرت عن التحدي والصمود الذي رسمه الفلسطينيون في صراعهم مع عدوٍ أقوى وأكثر تسلحاً. حتى الرئيس عرفات استشهد في حصاره بصورة فارس عودة، وهو المحاط بالدبابات، والضعيف والمتخلى عنه، والمتيقن من مصيره المأساوي في "المقاطعة". وكأنه رفع فارس عودة نموذجاً لما كان يراه من صورة الفلسطيني. وتماهى مع صورة البطل الذي يمضي إلى مصيره المحتوم، وهو يعرف نهايته التراجيدية.

قدّم محمد أبو خضير بجسده الطري المحترق صورةً، نستطيع وصفها بالرصاصة الحارقة الخارقة للأسطورة اليهودية. أسطورة الضحية التي يسعى العالم كله إلى حرق جذورها كعرق وجماعة. والبذور الراسخة في الوعي اليهودي، وفي الممارسة الوجودية لليهود عامة، ويهود إسرائيل خاصة، والتي بلغت ذروتها في "المحرقة" النازية، وصلت إلى اكتمال الدائرة بحرق أبو خضير بالبنزين. وأُغلقت تلك الصفحة من كتاب التاريخ التي ظلت مفتوحة رمزياً، منذ كتبها النازيون بوحشية صادمة.

استخدام البنزين للقتل فاق في دلالاته الرمزية نار إسرائيل على غزة، بعد أيام من حرق أبو خضير. تجرع المستوطنون الثملون بتاريخ قتل اليهود بالغاز في معسكرات النازية كأس الموت الرمزي إلى نهايته، فلم يبق غير جسد العدو الصغير الضعيف، ليثملوا به، وهو ما يجعلنا نرى أن العدو القوي يصل، في صراعه مع أعدائه الضعفاء في لحظة مرضية، إلى انسداد الأبواب أمام طرق الموت، فيلجأ إلى طرق موته السابقة التي تقوده إلى هزيمة ذاته، متوهماً أنه انتصر.

8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.