يمكن تفسير الخلافات البينية العربية المستعصية جزئياً بواقع الأنظمة العربية الغارقة في أزمة شرعية شاملة كونها لا تمثل الإرادة الشعبية وجاءت بانقلابات عسكرية أو انتخابات غير حقيقية أو بدعم وإسناد خارجي، وفي سياق الحفاظ على ديمومة هذه الأنظمة درجت على تصدير أزماتها للخارج وافتعال خلافات مع الجوار، واللعب على وتر قضايا الأمة المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية واستخدامها ورقة يتم توظيفها لصالح هذا النظام أو ذاك، بعيداً كل البعد عن تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني وإسناده في إنجاز مشروع الاستقلال.
وخلال مسيرة العمل العربي تجاه القضية الفلسطينية شكلت بعض الأحداث والخلافات العربية محطات رئيسية فرضت نفسها على الواقع الفلسطيني وتسببت ليس بأزمات، وإنما بكوارث للقضية الفلسطينية لا يزال الشعب الفلسطيني يدفع فواتيرها حتى الآن. وفي ما يأتي أهم هذه المحطات:
قواعد الفدائيين في الأردن والصدام المسلح 1970-1971
بعد هزيمة عام 1967، تلبدت سماء العالم العربي بسحب سوداء، وسيطرت حالة نفسية صعبة على القادة العرب، فكان لا بد من مسح بعض عار الهزيمة وتنفيس الاحتقان لدى الشعوب العربية، فسمحت بعض الدول على خط المواجهة للفدائيين الفلسطينيين بتنفيذ بعض عمليات مقاومة وإقامة قواعد عسكرية كما في المملكة الأردنية، رغم أن النظام لم يكن يرحب بمقاومة الفلسطينيين. ولكن هذه القواعد تضخمت حتى شكلت تهديداً للنظام الأردني، خاصة من اليسار الفلسطيني الذي تبنى شعار "عمان عاصمة المقاومة" و"هانوي العربية". وعلى كل الأحوال لم يكن الملك حسين في حينه مُرحباً بالمقاومة وكان ينتظر الفرصة للانقضاض عليها. الرئيس المصري في حينه جمال عبد الناصر لم يُكن الود للأنظمة الملكية العربية، كما أن هذه الملكيات كانت تخشى الشعارات القومية والعروبية التي علا صوتها في تلك المرحلة. وعلى خلفية رفض منظمة التحرير الفلسطينية لمبادرة وزير الخارجية الأميركية، وليم روجرز، للسلام في يونيو/حزيران عام 1970، والتي قبلها عبد الناصر، وجاءت في سياق حرب الاستنزاف البطولية على ضفتي قناة السويس، وتشجيع المنظمة لتظاهرات مناوئة للمبادرة، غضب عبد الناصر من الفدائيين ورأى بأنهم تجاوزوا حجمهم ومكانتهم وبحاجة إلى من يذكرهم بذلك. وما أن قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتفجير أربع طائرات مختطفة في مطار ثانوي في الزرقاء في سبتمبر/أيلول 1970، حتى بادرت قوات البادية بأمر من الملك حسين بعملية مبرمجة لطرد الفدائيين من الأردن وتصفية قواعدهم العسكرية. وبحلول شهر يوليو/تموز 1971 كانت الحدود الأردنية الغربية والمخيمات الفلسطينية خالية من قواعد الفدائيين وغاب معها الفعل المقاوم على طول الحدود بعد فترة ذهبية امتدت بين عامي 1968-1971.
وانتقلت القواعد إلى لبنان مع تجربة مقاومة فلسطينية مريرة أخرى، طبعاً وخلال الصدامات لم يتدخل الرئيس المصري عبد الناصر إلا في مراحلها الأخيرة للسبب الذي ذكر سابقاً، والأنظمة العربية الأخرى لم تكن تهتم أو أنها كانت راغبة في ذبح المقاومة الفلسطينية وتصفية قواعدها خاصة الملكيات منها، الصدام المسلح المأساوي في الأردن وخروج الفدائيين إلى لبنان أضعف القضية الفلسطينية في حينه، وأدى إلى تصفية جبهة مقاومة مهمة لم يكن من السهل تعويضها.
اتفاقية كامب ديفيد والانقسام العربي على أساس مشروع التسوية
كان من المأمول عربياً وفلسطينياً أن تشكل حرب أكتوبر/تشرين عام 1973 رافعة للعالم العربي وسنداً قوياً لصالح القضية الفلسطينية، غير أن الرئيس المصري أنور السادات كان له مشروع آخر بعد أن قرر التحرك على أساس أن 99% من أوراق الحل هي بيد الولايات المتحدة. وزار الكنيست الصهيوني ووقع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة عام 1978، وهو ما أخرج مصر من دائرة الصراع. الاتفاقية مثلت طلقة نجلاء في ظهر الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ومن ناحية أخرى أحدثت انقساماً في العالم العربي بين أنصار مشروع التسوية والمعارضين له، قاد الفريق الأول مصر ومعها الأردن، بينما الفريق الآخر تقدمته سورية ومعها ليبيا، كما عارض العراق بشدة نهج التسوية. أما منظمة التحرير التي استشعرت بأن الظروف مواتية، فقررت الاقتراب من أنصار التسوية علها تكون جزءاً من العملية، فتبنى المجلس الوطني الفلسطيني التابع للمنظمة في دورته الثانية عشرة عام 1974 برنامج النقاط العشر والذي تحدث عن إقامة سلطة للشعب الفلسطيني في أي بقعة يتم تحريرها، وقد تجلى الخلاف العربي في حالة الاصطفاف والتناحر على الساحة اللبنانية، فقد ساندت سورية الفصائل الفلسطينية الموالية لها والتي ضمت منظمة الصاعقة وفتح الانتفاضة بقيادة أبو موسى والقيادة العامة بقيادة أحمد جبريل، بينما دعمت مصر والأردن حركة فتح وهو ما أفضى إلى معارك طرابلس ونهر البارد والبداوي عام 1983، وخروج أبو عمار من لبنان للمرة الثانية بعد خروجه الأول عام 1982.
وفي هذه المرحلة تعرضت القضية الفلسطينية لأزمة حرجة عنوانها العمل المقاوم والاستدارة التي حدثت للبندقية الفلسطينية وحرفها عن مسارها لغايات لا تمت إلى قضية الشعب الفلسطيني بصلة، بل لتصفية حسابات عربية عربية على الساحة اللبنانية بتوظيف البندقية الفلسطينية لصالح طرف عربي معين ضد آخر، فقد حدث اختراق عربي للمقاومة الفلسطينية عبر المبادرة بتأسيس فصائل فلسطينية خاضعة بالكامل لنظام عربي أو مصادرة قرارها والتحكم بها عبر الدعم المادي والعسكري، فقد أوجد النظام السوري حلفاء حقيقيين من الفصائل الفلسطينية وخاضوا حرباً بالنيابة عنه في المخيمات وطرابلس ونهر البارد والبداوي مع حركة فتح بقيادة ياسر عرفات 1983-1985. وشكلت الأطراف الأربعة (الجبهة الشعبية القيادة العامة وفتح الانتفاضة "أبو موسى"، ومنظمة الصاعقة وحركة أمل) بعد ذلك القوة الضاربة لسورية في لبنان. وفي سياق الخلاف بين حزب البعث السوري والعراقي تشكلت جبهة التحرير العربية عام 1969م برعاية حزب البعث العراقي، كما دعمت المخابرات العراقية انشقاق صبري البنا "أبو نضال" عن حركة فتح عام 1976م باسم "فتح المجلس الثوري". طبعاً أبو نضال حول ولاءه بعد ذلك إلى معمر القذافي ثم إلى أجهزة مخابرات عربية أخرى والتي أهلته ليتحول إلي بندقية مأجورة لدى عدة أطراف عربية وأجنبية لتصفية حساباتها، وهو ما تسبب في استهداف العشرات من كوادر الدبلوماسية الفلسطينية وقادة العمل المقاوم في مناطق واسعة من العالم.
حرب الخليج الثانية والانقسام العربي واتفاق أوسلو
زلزال آخر ضرب الإجماع العربي بعد خطوة صدام حسين المتهورة باجتياح القوات العراقية الكويت في أغسطس/آب 1990، في وقت كانت الولايات المتحدة على أحر من الجمر في انتظار مغامرة غير محسوبة من صدام لتكون سبباً في تدمير القوة العراقية وإجهاض نهضتها العلمية الاقتصادية لصالح "إسرائيل" وإضعاف الموقف العربي بشكل عام. انقسم العرب إلى معسكرين، الأول بقيادة الولايات المتحدة وضم دول الخليج العربي ومصر والمغرب وسورية، أما الأردن واليمن ومنظمة التحرير والسودان وتونس والجزائر وموريتانيا فوقفت إلى جانب العراق أو تحفظت على التدخل العسكري والحرب ضد العراق.
اعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أكثر الأطراف الخاسرة على الإطلاق بعد أن وقف ياسر عرفات إلى جانب صدام حسين. وعلاوة على طرد مئات آلاف الفلسطينيين من الكويت ودول الخليج الأخرى، وفقدان ركن أساسي مساند للقضية الفلسطينية مادياً وسياسياً، فرضت السعودية والكويت ومصر ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مقاطعة سياسية على ياسر عرفات. وكانت أنظار الإدارة الأميركية تتجه نحو تدفيع أبو عمار الثمن من القضية الفلسطينية ، فكان مؤتمر مدريد عام 1991 برعاية وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر ومشاركة وفد فلسطيني وأردني مشترك في إطار مبادرة أميركية لحل الصرع استثماراً للظروف المواتية وفقدان المنظمة الحلفاء، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
بالتأكيد بعض الأطراف العربية كانت منخرطة في مشروع التسوية الجديد أو راضية عن التحرك الأميركي لاتفاق تسوية سيكون حتماً على حساب حقوق الفلسطينيين ثم كانت قناة أوسلو السرية الكارثية التي أفضت إلى توقيع اتفاق المبادئ في أيلول 1993 من خلف ظهر الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة. وبكل المقاييس كان الاتفاق شهادة الضياع لما تبقى من مساحة الضفة الغربية والقدس وتلاشي مشروع الدولة الفلسطينية وتكريس واقع الانقسام بين غزة والضفة وتشكيل سلطة وظيفتها حماية أمن "الإسرائيليين" من دون صلاحيات سيادية حقيقية.
الانقسام العربي بعد ثورات الشعوب وتفاقم الخلافات الخليجية
كان من الطبيعي أن تشكل الأنظمة العربية مركب الثورة المضادة للحفاظ على وجودها عندما ثارت الشعوب العربية عام 2011، وبما أن هذه الأنظمة فاقدة للشرعية ولا تحظى برضى شعوبها فإنها وقفت بشراسة ضد كل نظام أو حركة أو مؤسسة أو منبر يمكن أن يناصر الشعوب، فقادت الإمارات والسعودية والنظام الانقلابي في مصر معسكر الثورة المضادة بدعم أو رضى غربي مستتر، وقامت كل من السعودية والإمارات والبحرين بقطع العلاقات مع قطر عام 2014، وتكرر الأمر في يونيو/حزيران 2017 مع إجراءات غير مسبوقة في تاريخ العمل العربي المشترك على خلفية احتضان الدوحة فضائية الجزيرة التي كان وما زال لها دور ريادي في مساندة حراك الشعوب وعلاقاتها مع بعض التيارات التي أفرزتها الشعوب على أنقاض الأنظمة البائدة.
فصائل المقاومة الفلسطينية، خاصة حركة حماس كانت أقرب إلى نبض الشارع العربي، فهي تختزل موقف الشعوب في موقفها من الكيان الصهيوني، ونُظر إليها من أنظمة الثورة المضادة على أنها مصدر إلهام للشعوب، وتحفيز للثورة على أنظمة الاستبداد، لذلك واجه قطاع غزة حصاراً جائراً من العرب قبل "إسرائيل" اشتدت وتيرته بعد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013. كما انسحب الأمر على أي طرف يمكن أن يدعم المقاومة أو يعزز صمود أهلها، كما فعلت قطر، وكانت مطالب معسكر الثورات المضادة غير المعلنة تتمثل في تدجين فصائل المقاومة والتخلي عن سلاحها والكفّ عن مقاومة الاحتلال على أمل إسقاط آخر حصون الممانعة للكيان، وهو بالمجمل يخدم المشروع الصهيوني ويقدم مساهمات مجانية له دون دفع أثمان، ومن ناحية أخرى فإن أنظمة الردة العربية وملحقاتها من كيانات الثورة المضادة وفي سياق الحفاظ على نفسها وعلى مكتسباتها سعت إلى تقديم القرابين للإدارة الأميركية والكيان الصهيوني، ولعل القضية الفلسطينية مرشحة أكثر من غيرها لتقديمها على مذبح السلام المزعوم عبر الانخراط في مشروع التطبيع الإقليمي مع الكيان متجاوزين بذلك مبدأ إنهاء الاحتلال وانسحاب "إسرائيل" من المناطق التي احتلتها عام 1967م كشرط أساسي يسبق أي عملية تطبيع.
وبالمجمل فإن الخلافات العربية – العربية والأجندات المتضاربة أضعفت القضية الفلسطينية بشكل كبير، مع غياب استراتيجية موحدة للتعامل مع الاحتلال والانخراط المتفرد في مشاريع تسوية في سياق تغليب المصالح الذاتية على قضايا الأمة المصيرية، كما أن الخلافات انعكست في بعض المراحل التاريخية على الواقع الفلسطيني حتى بدت الساحة الفلسطينية الفضاء المفضل لتصفية بعض الأنظمة حساباتها مع نظام آخر في تحريف متعمد لوجهة البندقية الفلسطينية التي ما كان لها إلا أن تتوجه نحو الاحتلال، وللأسف فإن الواقع العربي الذي يزداد تأزماً يوماً بعد يوم يعكس نفسه على الواقع الفلسطيني الذي تتعرض فيه قضيته التاريخية للتصفية بفعل مشاريع تهويد القدس وابتلاع الضفة الغربية وتكريس واقع الانقسام وإدامة حصار غزة.
اقــرأ أيضاً
وخلال مسيرة العمل العربي تجاه القضية الفلسطينية شكلت بعض الأحداث والخلافات العربية محطات رئيسية فرضت نفسها على الواقع الفلسطيني وتسببت ليس بأزمات، وإنما بكوارث للقضية الفلسطينية لا يزال الشعب الفلسطيني يدفع فواتيرها حتى الآن. وفي ما يأتي أهم هذه المحطات:
قواعد الفدائيين في الأردن والصدام المسلح 1970-1971
وانتقلت القواعد إلى لبنان مع تجربة مقاومة فلسطينية مريرة أخرى، طبعاً وخلال الصدامات لم يتدخل الرئيس المصري عبد الناصر إلا في مراحلها الأخيرة للسبب الذي ذكر سابقاً، والأنظمة العربية الأخرى لم تكن تهتم أو أنها كانت راغبة في ذبح المقاومة الفلسطينية وتصفية قواعدها خاصة الملكيات منها، الصدام المسلح المأساوي في الأردن وخروج الفدائيين إلى لبنان أضعف القضية الفلسطينية في حينه، وأدى إلى تصفية جبهة مقاومة مهمة لم يكن من السهل تعويضها.
اتفاقية كامب ديفيد والانقسام العربي على أساس مشروع التسوية
وفي هذه المرحلة تعرضت القضية الفلسطينية لأزمة حرجة عنوانها العمل المقاوم والاستدارة التي حدثت للبندقية الفلسطينية وحرفها عن مسارها لغايات لا تمت إلى قضية الشعب الفلسطيني بصلة، بل لتصفية حسابات عربية عربية على الساحة اللبنانية بتوظيف البندقية الفلسطينية لصالح طرف عربي معين ضد آخر، فقد حدث اختراق عربي للمقاومة الفلسطينية عبر المبادرة بتأسيس فصائل فلسطينية خاضعة بالكامل لنظام عربي أو مصادرة قرارها والتحكم بها عبر الدعم المادي والعسكري، فقد أوجد النظام السوري حلفاء حقيقيين من الفصائل الفلسطينية وخاضوا حرباً بالنيابة عنه في المخيمات وطرابلس ونهر البارد والبداوي مع حركة فتح بقيادة ياسر عرفات 1983-1985. وشكلت الأطراف الأربعة (الجبهة الشعبية القيادة العامة وفتح الانتفاضة "أبو موسى"، ومنظمة الصاعقة وحركة أمل) بعد ذلك القوة الضاربة لسورية في لبنان. وفي سياق الخلاف بين حزب البعث السوري والعراقي تشكلت جبهة التحرير العربية عام 1969م برعاية حزب البعث العراقي، كما دعمت المخابرات العراقية انشقاق صبري البنا "أبو نضال" عن حركة فتح عام 1976م باسم "فتح المجلس الثوري". طبعاً أبو نضال حول ولاءه بعد ذلك إلى معمر القذافي ثم إلى أجهزة مخابرات عربية أخرى والتي أهلته ليتحول إلي بندقية مأجورة لدى عدة أطراف عربية وأجنبية لتصفية حساباتها، وهو ما تسبب في استهداف العشرات من كوادر الدبلوماسية الفلسطينية وقادة العمل المقاوم في مناطق واسعة من العالم.
حرب الخليج الثانية والانقسام العربي واتفاق أوسلو
اعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أكثر الأطراف الخاسرة على الإطلاق بعد أن وقف ياسر عرفات إلى جانب صدام حسين. وعلاوة على طرد مئات آلاف الفلسطينيين من الكويت ودول الخليج الأخرى، وفقدان ركن أساسي مساند للقضية الفلسطينية مادياً وسياسياً، فرضت السعودية والكويت ومصر ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مقاطعة سياسية على ياسر عرفات. وكانت أنظار الإدارة الأميركية تتجه نحو تدفيع أبو عمار الثمن من القضية الفلسطينية ، فكان مؤتمر مدريد عام 1991 برعاية وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر ومشاركة وفد فلسطيني وأردني مشترك في إطار مبادرة أميركية لحل الصرع استثماراً للظروف المواتية وفقدان المنظمة الحلفاء، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
بالتأكيد بعض الأطراف العربية كانت منخرطة في مشروع التسوية الجديد أو راضية عن التحرك الأميركي لاتفاق تسوية سيكون حتماً على حساب حقوق الفلسطينيين ثم كانت قناة أوسلو السرية الكارثية التي أفضت إلى توقيع اتفاق المبادئ في أيلول 1993 من خلف ظهر الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة. وبكل المقاييس كان الاتفاق شهادة الضياع لما تبقى من مساحة الضفة الغربية والقدس وتلاشي مشروع الدولة الفلسطينية وتكريس واقع الانقسام بين غزة والضفة وتشكيل سلطة وظيفتها حماية أمن "الإسرائيليين" من دون صلاحيات سيادية حقيقية.
الانقسام العربي بعد ثورات الشعوب وتفاقم الخلافات الخليجية
فصائل المقاومة الفلسطينية، خاصة حركة حماس كانت أقرب إلى نبض الشارع العربي، فهي تختزل موقف الشعوب في موقفها من الكيان الصهيوني، ونُظر إليها من أنظمة الثورة المضادة على أنها مصدر إلهام للشعوب، وتحفيز للثورة على أنظمة الاستبداد، لذلك واجه قطاع غزة حصاراً جائراً من العرب قبل "إسرائيل" اشتدت وتيرته بعد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013. كما انسحب الأمر على أي طرف يمكن أن يدعم المقاومة أو يعزز صمود أهلها، كما فعلت قطر، وكانت مطالب معسكر الثورات المضادة غير المعلنة تتمثل في تدجين فصائل المقاومة والتخلي عن سلاحها والكفّ عن مقاومة الاحتلال على أمل إسقاط آخر حصون الممانعة للكيان، وهو بالمجمل يخدم المشروع الصهيوني ويقدم مساهمات مجانية له دون دفع أثمان، ومن ناحية أخرى فإن أنظمة الردة العربية وملحقاتها من كيانات الثورة المضادة وفي سياق الحفاظ على نفسها وعلى مكتسباتها سعت إلى تقديم القرابين للإدارة الأميركية والكيان الصهيوني، ولعل القضية الفلسطينية مرشحة أكثر من غيرها لتقديمها على مذبح السلام المزعوم عبر الانخراط في مشروع التطبيع الإقليمي مع الكيان متجاوزين بذلك مبدأ إنهاء الاحتلال وانسحاب "إسرائيل" من المناطق التي احتلتها عام 1967م كشرط أساسي يسبق أي عملية تطبيع.
وبالمجمل فإن الخلافات العربية – العربية والأجندات المتضاربة أضعفت القضية الفلسطينية بشكل كبير، مع غياب استراتيجية موحدة للتعامل مع الاحتلال والانخراط المتفرد في مشاريع تسوية في سياق تغليب المصالح الذاتية على قضايا الأمة المصيرية، كما أن الخلافات انعكست في بعض المراحل التاريخية على الواقع الفلسطيني حتى بدت الساحة الفلسطينية الفضاء المفضل لتصفية بعض الأنظمة حساباتها مع نظام آخر في تحريف متعمد لوجهة البندقية الفلسطينية التي ما كان لها إلا أن تتوجه نحو الاحتلال، وللأسف فإن الواقع العربي الذي يزداد تأزماً يوماً بعد يوم يعكس نفسه على الواقع الفلسطيني الذي تتعرض فيه قضيته التاريخية للتصفية بفعل مشاريع تهويد القدس وابتلاع الضفة الغربية وتكريس واقع الانقسام وإدامة حصار غزة.