في مقدّمة "حمامة القنصل" للكاتب العراقي محسن الخفاجي (1950 - 2014)، التي صدرت مؤخّراً عن "دار مقهى"، يصف حيدر عودة المجموعة القصصية بأنها "وثيقة تعني الجميع"، من حيث قدرتها على نقل وقائع "عصيبة" عاشها المعتقلون في سجن بوكا، حيث قضى الكاتب ثلاثة أعوام في المعتقل الأميركي الصحراوي في البصرة، الذي ضمّ أكثر من 30 ألف معتقل عراقي، ولقي فيه 31 حتفهم دون أن تُسلّم جثثهم إلى ذويهم.
العمل عبارة عن شذرات من حياة ضحايا زنازين التعذيب موزّعة على 14 قصّة تضمّنتها المجموعة، تتكرّر خلالها الصور والمآسي نفسها لعمليات التحقيق المرعبة، والسؤال الأبدي لمعتقلين من دون اتّهام، في حين يتفنّن السجّان الأميركي في جعل المعتقل "أسير الحرية" التي جاء على دبّابته مبشّراً بها.
قصص المجموعة تدور حول تجربة السنوات الثلاث التي قضاها الخفاجي في المعتقل وتوثّقها. وقد تكون واحدة من الأعمال الأدبية القليلة التي تطرّقت إلى موضوع السجون الأميركية في العراق، والتي لم يسعف الكاتب العمر لكي ينشرها بنفسه، فتكفّل أصدقاؤه بذلك بعد سنة من وفاته، وكأن الخفاجي في معتقله كان قد فقد الأمل من الحياة إلى الأبد، حتى بعد خروجه منه: "نمتُ هارباً من كل سؤال، مرّة أخرى فقدت الأمل" (من قصة "التحقيق السابع عشر").
الأمل الوحيد الذي كان يظهر في المجموعة، هو أن يُحاكَم السجّان والجلاّد في المستقبل: "نعم، سأكتب عنكم، وأفضح هذا الزيف. ينبغي أن تعرف الأجيال هذه الجرائم التي لحقت بأبرياء، بي وبغيري، لتتمّ محاكمة جثّتكم في المستقبل".
في قصة "قطرات من ماء السراب"، يقول الراوي: "إذا وصلتَ إلى بوكا، فتذكّر أنك في الوادي المقدّس. هنا تعذّبت أرواح، وتوقّفت أعمار طوّقها الغزاة بسيل رصاص متواصل، وأعدّ الجنود رؤوسهم بأعواد الكافيين.
هنا، امتلأت أجواف السجناء بالكولسترول، وقُتل كثيرون برشقات رصاص غادر. عاشوا مع الذئاب والفئران والعقارب والأفاعي من كل صنف. عرفوا أقسى درجات الحرارة، تلك الحرارة، تلك الدرجات التي تخلع الجلد وتفصله عن اللحم".
جلسات التحقيق مكانٌ أساسي وزمانٌ جوهري يحرّك معظم القصص. وكل تحقيق يتكرّر، يأمل السارد أن يكون النهائي والأخير، وأن يكون عتبة الخلاص من الجحيم الأميركي، ولكن في كل مرة ينتهي المحقّق من تهمة، تظهر أخرى ويبدأ التحقيق من جديد.
المجموعة كلّها إدانة، كتابة احتجاج تؤشّر على مرحلة تاريخية مرّ بها العراق الحديث، وهي أيضاً، شهادة من قاص عراقي كان رقمه في المعتقل "109304". رغم هذا الرابط بين التجربة الفردية التي عاشها الخفاجي وبين قصصه التي حملتها مجموعته "حمامة القنصل"، يشير صاحب "سماء مفتوحة إلى الأبد" و"النازي الأخير وإيفا بروان" إلى فعل الكتابة ومكرها وإلى مستويات التخييل السردي.
يعود ليؤكّد أن هذا "العجائبي" كان حقيقة قد لا يصدّقها العقل، لكن هذا لا يقلّل من أنها وقعت وأنها على هذه الدرجة من العنف غير القابلة للتصديق: "ربما تصدّقها، ربما لا. ربما تظن أنها حكاية فانتازية، لكن هذا ما حدث فعلاً، ورأيتُه بعينَيَّ هاتين اللتين سيأكلهما الدود ذات يوم. أنا نفسي لن أصدّق لو رواه أحد لي، وأقسم على ذلك بأرواح أسلافي، لكن الحياة مليئة بضروب من الأخيلة التي تفوق كل ما هو واقعي".
كانت سنوات اعتقال الخفاجي قصّة تداولها الإعلام ومنظّمات حقوق الإنسان التي سعت إلى الإفراج عنه دون طائل. حتى أنه كتب رسالة مفتوحة إلى جورج بوش، الرئيس الأميركي آنذاك، قال فيها: "أنا لست الفوهرر ولا وطبان (التكريتي) أو علي الكيماوي ولست موسوليني أو بن لادن. أنا كاتب قصة ومحتسي شاي جيّد وصانع حلم".
اقرأ أيضاً: عبد الأمير جرص: كما لو أنّه غادر حانة