22 يناير 2018
محاولة في فهم الأصوليّة الإسلاميّة
بعيداً عن المقاربات الثقافوية في تناول الظاهرة الأصوليَّة الإسلاميَّة المعاصرة، فإنَّه يتوفَّر شبه إجماعٍ، الآن، بين المشتغلين في العلوم الاجتماعية والإنسانيَّة، على أنَّ ظاهرة الأصولية الإسلامية لا يمكن اختصارها بمشكلة تفسيريَّة في النص القرآني، أو تنفيذاً مباشراً لأوامر ماضوية من الشريعة الإسلامية، بل هي ظاهرة معاصرة وحديثة وراهنيَّة، ولا تفهم سوى ضمن ظروف الراهن والحاضر. من دون التقليل طبعاً من المشكلة الثقافية الهائلة الموجودة ضمن الجملة النظرية الإسلامية، والتي تحتاج، وهذا لا شكّ فيه، إلى تحليلٍ ومراجعةٍ ونقد جذري (هذا النص ليس مهموماً بتناولها). ولكن، يصرّ علماء الاجتماع على أنَّ هذه المشكلة الثقافيّة، على الرغم من جدّيتها وعمقها، غير كافية لأنّ تكون العامل الحاسم الأكثر فعاليَّة في تشكيل هذه الظاهرة.
في الأصولية الإسلامية المعاصرة في سورية والعراق، وتحديداً في ظاهرة "الدولة الإسلامية"، ملمحَان مُميَّزان، الأوّل، محلي وإقليمي، له علاقة بالقمع المذهبي الثأري، وطبيعة العنف المشخصنة، الذي تعرّضت له الكتل المحتجة بعد انطلاق حركات التغيير الثوري في عام 2011 في سورية والعراق، والتدخلات الإقليمية الطائفية، ودورها في تأجيج العنف المذهبي، وخصوصاً الدور الإيراني في تحويل التشيُّع الاجتماعي إلى تشيُّع سياسي ثم إلى تشيُّع عسكري، أي امتزاج المال السياسي الإيراني مع المشكلة المذهبيّة الشيعيّة، الملتهبة أصلاً، في المجتمعات المشرقيّة. والثاني، دولي وأممي، له علاقة بالأزمات الداخلية للمجتمعات الغربيَّة من مشكلات فشل ما يسمّى "اندماج المهاجرين"، إلى الأزمات الاقتصادية الخانقة. هنا محاولة لإلقاء الضوء على البعد الدولي الأممي في ظاهرة الأصولية الإسلامية في سياقات سورية والعراق.
الانزياح الطبقي العالمي
ليس احتجاجاً يسارياً طفولياً القول إنَّ النيوليبرالية الغربيّة المركزيَّة المتوحشة، والمهيمنة الآن، وبشكل كبير، على آليّة تشكّل الثورة العالميّة وتوزعها، تمنع من تشكّل "طبقة وسطى عالمية"، أيّ أنَّ فرداً من الطبقة الوسطى في سورية أو العراق أو أفغانستان، سيكون موضعه الطبقي في أوروبا، مثلاً، في الطبقة الفقيرة. كما أنَّ فرداً من الطبقة الوسطى في الغرب، فإنَّ تموضعه في الخريطة الطبقية في بلدان المشرق أو في أفغانستان وباكستان، سيكون إما برجوازياً أو في الشريحة الدنيا من الطبقة البرجوازية. بالتأكيد، ردم هذا الانزياح الطبقي الفادح، وتشكيل طبقة وسطى عالمية، هي دعوة طوباوية وأيديولوجية وغير واقعية، وهي هذه الدعوة تدخل في خانة التبشير السياسي والأخلاقي، لكن الفارق كبير إلى الدرجة التي تشكّل أحد أوجه أزمة عالمنا المعاصر.
ولأنَّ سياسة الدولة الديمقراطية الليبراليّة الغربيَّة الحديثة، تشتق، بشكل أساسي، من شروط حياة
الطبقة الوسطى داخل المجتمعات الغربيَّة، أي تثبيت الدخل المالي المرتفع، وزيادة شروط الأمان الصحي والتعليمي والعسكري والنفسي، وكل مكتسبات دولة الرفاه الأوروبية الحديثة، فإنَّ الطبقة الوسطى الغربية المهيمِنة تتشكَّل، في جانبٍ من جوانبها، عن طريق اضمحلال الطبقة الوسطى العالمثالثية المهيمَنة وترقّقها وتكسّرها، وذلك عن طريق الحروب العسكرية المباشرة، والتحالف مع الأنظمة الاستبدادية المحليّة الدينية والعسكرية في دول العالم الثالث، وأدوات أكثر دقة كالشركات متعددة الجنسيات وخطوط الطاقة وغيرها. ولأنَّ طبقة القيم المعنوية السائدة والمهيمِنة في المجتمعات الغربيَّة التي تعتمد النظام الديمقراطي الليبرالي، أي القيم والأخلاق الموجودة في قعر الدولة، تفرزها، بشكل أساسي، الطبقة الوسطى، لأنّ الكتلة العددية السكانية الأكبر تنتمي إلى الطبقة الوسطى. ومنه، فإنَّ جملة الأفكار الغربية الحديثة، من حرية الجسد وحقوق المثليين والحركات النسوية والمجتمع المدني والحرية المطلقة للرأي والتعبير وتقديس الديمقراطية، وإبعاد الدين عن الفضاء العام، أي العلمانية، كوّنتها، بشكل أساسي، الطبقة الوسطى الغربية المهيمِنة.
أمّا الشرائح الاجتماعيّة الأوسع في العراق وسورية وأفغانستان وباكستان فهي تندرج في خانة الطبقة الفقيرة المعدومة والمسحوقة، بسبب غياب طبقة وسطى حقيقية في دول العالم الثالث، وانقسام المجتمعات في هذه الدول إلى طبقة فقيرة هائلة الحجم ومتسعة، وطبقة برجوازية صغيرة وضيِّقة. هذه الطبقة البرجوازية أو طبقة الأغنياء دورةُ تدفّقها المالي الخاص، مرتبطة غالباً مع الشبكات السياسية المحليَّة التسلطيّة. وجدير بالذكر أنَّ طبقة القيم المعنويّة السائدة في أوساط هذه الشرائح الفقيرة والمعدومة هي التديّن والطائفية، بسبب غياب الطبقة الوسطى العالمثالثية، القادرة على خوض الصراع في سياقها المحلي، لإنتاج طبقة قيمها المعنوية الأخلاقية الخاصّة، والتي ليس، بالضرورة، أن تتطابق بشكل مطلق مع طبقة القيم المعنوية الأخلاقية الغربية السائدة الآن. ومنه نستطيع أن نميّز الملاحظة الأساسيّة التالية في السياق السوري، وهي، التماهي السهل والتطابق شبه المطلق بين شروط حياة الطبقة البرجوازية السورية الصاعدة، أي الأغنياء الجدد (العالم الأوّل الداخلي، أو السوريين البيض، بتعبير ياسين الحاج صالح)، وشروط حياة الطبقة الوسطى الغربية (وكما أشرتُ سابقاً، فإنَّ فرداً برجوازياً في سورية هو فرد من الطبقة الوسطى في الغرب). يتجلّى ذلك بشكل واضح في تبني تلك البرجوازية السورية الصاعدة خطاب الحداثة الغربي، بشكله المشوّه المفرغ من أي قيمةٍ اجتماعية عامة، أو حمولة احتجاجيَّة سياسيَّة معارضة، كاحتقار التدين الاجتماعي الإسلامي العام، وبالتالي، احتقار شرائح شاسعة من الطبقات المعدومة والفقيرة، التي يشكّل التدين وعيها البدئي، وتقديس العلمانية بشكلها الصلب المتعالي، بحجة مواجهة التخلف والقدامة والأصولية، ويتم إهمال الديمقراطية غالباً في خطاب هؤلاء الأغنياء الجديد، إما بسبب إدراكهم بأنهم سيهزمون بالمعنى العددي المباشر في صناديق الاقتراع، أو بسبب اقترابهم من السلطة السياسية الأسدية، فالعلمانية في خطابهم، منفصلة عن الديمقراطية بشكل مطلق، كما أنَّ ثمة استعلاءً على البيئات المهمّشة والفقيرة (العالم الثالث الداخلي أو السوريين السود)، ذات الدخل المنخفض والحماية المعدومة، والتي يشكّل التدين بأشكاله كافة (الاجتماعي - السياسي - العسكري) وعيها الخام الأساسي. وتتبع الجماعة الداخلية السوريّة البيضاء التقاليد الأوروبية في المأكل والملبس والمشرب، وهي "ثائرة" على المستوى الثقافي، ومحافظة على مستوى تغيير المركب السلطوي الحاكم، وتتبنى أطروحات النسوية وحرية الجسد، كما أنها تتقن بشكل معقول وسائل التكنولوجيا الحديثة واللغات الأجنبيّة. تشكّلت هذه البرجوازية السورية الصاعدة، والتي تقلّد الطبقة الوسطى الغربية في أشكالها الحياتية، إثر تحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد السوق المفتوح الليبرالي بعد عام 2005، إذْ فتح بشار الأسد البلد أمام نزعة نيوليبرالية متوحشّة، مع استمرار التسلّط المافيوزي الأوليغارشي العائلي، وتراجع دور الدولة الخدماتي العمومي.
لهذه الأسباب، يتحوّل خطاب "المجتمع المدني" و"التحرر الجسدي" و"العلمانية" وحتّى
"الديمقراطية" و"الفيمينزم" في نظر البيئات المهمشة والمعزولة في سياق بلداننا، إلى خطاب هيمنة وتسلّط وسيطرة، لأنّه ينبعث إما من البرجوازيات المحليّة الصاعدة حديثاً، والمرتبطة مع الأنظمة السياسية العضليّة العاتية، أو من الطبقة الوسطى الغربية المهيمِنة. وهذا بالضبط ما يدعوه ميشيل فوكو في مناظرته المشهورة مع نعوم تشومسكي، بـ "السلطة الخاصة ضمن المفاهيم العامة المجرّدة"، أي أنَّ الخطابات المجرّدة، إذا ما صدرت من مجموعات بشرية مهيمِنة (محليّة أو خارجيّة) وتمتلك السلطة والثورة والهيبة والمكانة والنفوذ، فإنَّها ستضمر ما يكفي من الحس الخاص، الذي يضمن موقعها وسيطرتها وهيمنتها في شبكة العلاقات السياسية - الاقتصادية السائدة، وسترفضه تلك الجماعات المعزولة المهمّشة (الثائرة سياسياً والمحافظة ثقافياً)، والتي تتعرّض لهذا الخطاب من فوق، وذلك دفاعاً أيضاً عن غبنها التاريخي، وتهميشها المستمر وإملاءات خامتها الثقافية الإسلامية. وبسبب إحساس الجماعة الأوّلي الغريزي، بموقع السلطة والتفوق والتميز والتمركز الذي يتكثّف، من أجل تثبيته فقط، خطاب الحداثة. وهذا هو السبب، باعتقادي، في توليد ثنائية "حداثة غربية - أصولية إسلامية مقاتلة". وفي تكوين الأصولية الإسلامية المقاتلة في سورية على الأقل، ردّ ما على هذه الأوضاع غير العادلة، أي انزياح الطبقة الوسطى العالمية، وتآكل الطبقة الوسطى وتلاشيها في بلداننا، على حساب ازدهارها في الغرب. والتماهي بين البرجوزيات المحليّة الصاعدة (الأغنياء الجدد)، حليفة الاستبداد المحلي أيضاً، مع الطبقة الوسطى الغربية في شروط حياتها وقيمها المعنوية الرمزية. وبهذا المعنى، لا أرى أي وجه تحرّري سياقي في الرسومات الكاريكاتورية التي تسيء لشخصية نبي الديانة الإسلامية، فهي تجريب القوة المهيمِنة السياسية على رد الفعل الثقافي للجماعات المسحوقة. ولا أرى، أيضاً، أية علائقية واقعية عضوية، في جعل النموذج الغربي معياراً مطلقاً في التقدم، مع إهمال مسار السياقات المحليّة.
حداثة الحامل وقدامة المحمول
من ناحية أخرى، يعاني العالم المعاصر من إشكاليّةٍ عميقة في صميمه، وهي اللاتناسب بين
سرعة التحديث وبطء الحداثة. أي أنَّ تطوُّر العلوم التكنولوجيَّة والتقنيَّة بأشكالها كافة، أسرع بما لا يُقاس مقارنةً مع البطء النسبي لتطوُّر القيم الاجتماعيَّة المعنويَّة، والعلوم الإنسانيَّة بشكل عام. الثورات العلميَّة الأساسيَّة في التاريخ البشري كانت قافزة ومفاجئة، ولم تكن أبداً جماعيَّة شاملة، بل إن فرداً أو جامعةً أو نخبة بحثيَّة تقنيَّة قامت بها، في حين أنَّ الثورات القيميَّة الاجتماعيَّة الكبرى التي تؤسِّس لأفق سياسي جديد واقتصاد سياسي أحدث من سابقه، وطبقة معنويَّة مختلفة من الأخلاق تتطلب تحرُّكات اجتماعيَّة عامَّة، تكون بطيئة وتراكميّة ومتدرِّجِة. وفي أحيان كثيرة، تؤدي إلى حروب أهليَّة دامية (الثورة الفرنسية - الثورة الأميركيّة - الثورات الطلابية في أوروبا - الثورة الروسية - ثورات الربيع العربي). سيادة العلوم التطبيقيَّة على العلوم الاجتماعيَّة تولِّد هيمنة تقليد القراءة الحَرْفيَّة الإلحاحيّة المباشرة، والتأويل الخطي وحيد الاتّجاه للنص المكتوب، وذلك بخنق تعدد المعاني واختلاف التأويل، في سجن ثلاثية العلم الصارمة "الفرض - الطلب - البرهان". وتنسجم هذه الذهنية الميكانيكية مع التفكير الأصولي في تحسُّس النص المكتوب، حيث المعنى واحد أحدٌ أيضاً، مُجْتثٌّ ومعزول من سياقات نشوئه.
من هنا، فإنَّ سطوة العلوم التطبيقية على العلوم الاجتماعية تكثّفُ بواكير التوتاليتاريا. لتصل هذه المفارقة في أقصاها، في ما يسمّونها "دول العالم الثالث"، حيث الفصام شبهُ كليّ بين الأداة التقنية الحاملة والقيمة الاجتماعية المحمولة. فلا يخفَى على أحدٍ، مثلاً، دور الوسائل التكنولوجية الحديثة في انتشار قيم الأصولية في كلّ العالم. ودور ثورة تكنولوجيا المعلومات، في مثال أكثر تخصيصاً، في كسر البنية الهرميّة لتنظيم القاعدة، إذ كان تنظيم القاعدة يعتمد على المركزية في القرار. أمَّا تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام فيعتمد على بنية أفقيّة أوسع في التفكير والمشاركة والإضافة، فلا مركزيّة هنا، وكلّ فرد هو مركز. ولا يمكن نكران دور ثورة تكنولوجيا المعلومات في هذا الانتقال من التواصل العمودي إلى الانتشار الأفقي.
من هنا، ظاهرة الأصولية الإسلامية، بقدر ما هي محليّة، فهي ظاهرة عالميّة، والإقرار بمسؤولية الجميع في توليدها، هو عملياً، أول خطوة في مواجهتها، بدلاً من أيديولوجيا "الحرب على الإرهاب" التي هي عموماً، لا تساهم سوى في تغذية "الإرهاب".
في الأصولية الإسلامية المعاصرة في سورية والعراق، وتحديداً في ظاهرة "الدولة الإسلامية"، ملمحَان مُميَّزان، الأوّل، محلي وإقليمي، له علاقة بالقمع المذهبي الثأري، وطبيعة العنف المشخصنة، الذي تعرّضت له الكتل المحتجة بعد انطلاق حركات التغيير الثوري في عام 2011 في سورية والعراق، والتدخلات الإقليمية الطائفية، ودورها في تأجيج العنف المذهبي، وخصوصاً الدور الإيراني في تحويل التشيُّع الاجتماعي إلى تشيُّع سياسي ثم إلى تشيُّع عسكري، أي امتزاج المال السياسي الإيراني مع المشكلة المذهبيّة الشيعيّة، الملتهبة أصلاً، في المجتمعات المشرقيّة. والثاني، دولي وأممي، له علاقة بالأزمات الداخلية للمجتمعات الغربيَّة من مشكلات فشل ما يسمّى "اندماج المهاجرين"، إلى الأزمات الاقتصادية الخانقة. هنا محاولة لإلقاء الضوء على البعد الدولي الأممي في ظاهرة الأصولية الإسلامية في سياقات سورية والعراق.
الانزياح الطبقي العالمي
ليس احتجاجاً يسارياً طفولياً القول إنَّ النيوليبرالية الغربيّة المركزيَّة المتوحشة، والمهيمنة الآن، وبشكل كبير، على آليّة تشكّل الثورة العالميّة وتوزعها، تمنع من تشكّل "طبقة وسطى عالمية"، أيّ أنَّ فرداً من الطبقة الوسطى في سورية أو العراق أو أفغانستان، سيكون موضعه الطبقي في أوروبا، مثلاً، في الطبقة الفقيرة. كما أنَّ فرداً من الطبقة الوسطى في الغرب، فإنَّ تموضعه في الخريطة الطبقية في بلدان المشرق أو في أفغانستان وباكستان، سيكون إما برجوازياً أو في الشريحة الدنيا من الطبقة البرجوازية. بالتأكيد، ردم هذا الانزياح الطبقي الفادح، وتشكيل طبقة وسطى عالمية، هي دعوة طوباوية وأيديولوجية وغير واقعية، وهي هذه الدعوة تدخل في خانة التبشير السياسي والأخلاقي، لكن الفارق كبير إلى الدرجة التي تشكّل أحد أوجه أزمة عالمنا المعاصر.
ولأنَّ سياسة الدولة الديمقراطية الليبراليّة الغربيَّة الحديثة، تشتق، بشكل أساسي، من شروط حياة
أمّا الشرائح الاجتماعيّة الأوسع في العراق وسورية وأفغانستان وباكستان فهي تندرج في خانة الطبقة الفقيرة المعدومة والمسحوقة، بسبب غياب طبقة وسطى حقيقية في دول العالم الثالث، وانقسام المجتمعات في هذه الدول إلى طبقة فقيرة هائلة الحجم ومتسعة، وطبقة برجوازية صغيرة وضيِّقة. هذه الطبقة البرجوازية أو طبقة الأغنياء دورةُ تدفّقها المالي الخاص، مرتبطة غالباً مع الشبكات السياسية المحليَّة التسلطيّة. وجدير بالذكر أنَّ طبقة القيم المعنويّة السائدة في أوساط هذه الشرائح الفقيرة والمعدومة هي التديّن والطائفية، بسبب غياب الطبقة الوسطى العالمثالثية، القادرة على خوض الصراع في سياقها المحلي، لإنتاج طبقة قيمها المعنوية الأخلاقية الخاصّة، والتي ليس، بالضرورة، أن تتطابق بشكل مطلق مع طبقة القيم المعنوية الأخلاقية الغربية السائدة الآن. ومنه نستطيع أن نميّز الملاحظة الأساسيّة التالية في السياق السوري، وهي، التماهي السهل والتطابق شبه المطلق بين شروط حياة الطبقة البرجوازية السورية الصاعدة، أي الأغنياء الجدد (العالم الأوّل الداخلي، أو السوريين البيض، بتعبير ياسين الحاج صالح)، وشروط حياة الطبقة الوسطى الغربية (وكما أشرتُ سابقاً، فإنَّ فرداً برجوازياً في سورية هو فرد من الطبقة الوسطى في الغرب). يتجلّى ذلك بشكل واضح في تبني تلك البرجوازية السورية الصاعدة خطاب الحداثة الغربي، بشكله المشوّه المفرغ من أي قيمةٍ اجتماعية عامة، أو حمولة احتجاجيَّة سياسيَّة معارضة، كاحتقار التدين الاجتماعي الإسلامي العام، وبالتالي، احتقار شرائح شاسعة من الطبقات المعدومة والفقيرة، التي يشكّل التدين وعيها البدئي، وتقديس العلمانية بشكلها الصلب المتعالي، بحجة مواجهة التخلف والقدامة والأصولية، ويتم إهمال الديمقراطية غالباً في خطاب هؤلاء الأغنياء الجديد، إما بسبب إدراكهم بأنهم سيهزمون بالمعنى العددي المباشر في صناديق الاقتراع، أو بسبب اقترابهم من السلطة السياسية الأسدية، فالعلمانية في خطابهم، منفصلة عن الديمقراطية بشكل مطلق، كما أنَّ ثمة استعلاءً على البيئات المهمّشة والفقيرة (العالم الثالث الداخلي أو السوريين السود)، ذات الدخل المنخفض والحماية المعدومة، والتي يشكّل التدين بأشكاله كافة (الاجتماعي - السياسي - العسكري) وعيها الخام الأساسي. وتتبع الجماعة الداخلية السوريّة البيضاء التقاليد الأوروبية في المأكل والملبس والمشرب، وهي "ثائرة" على المستوى الثقافي، ومحافظة على مستوى تغيير المركب السلطوي الحاكم، وتتبنى أطروحات النسوية وحرية الجسد، كما أنها تتقن بشكل معقول وسائل التكنولوجيا الحديثة واللغات الأجنبيّة. تشكّلت هذه البرجوازية السورية الصاعدة، والتي تقلّد الطبقة الوسطى الغربية في أشكالها الحياتية، إثر تحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد السوق المفتوح الليبرالي بعد عام 2005، إذْ فتح بشار الأسد البلد أمام نزعة نيوليبرالية متوحشّة، مع استمرار التسلّط المافيوزي الأوليغارشي العائلي، وتراجع دور الدولة الخدماتي العمومي.
لهذه الأسباب، يتحوّل خطاب "المجتمع المدني" و"التحرر الجسدي" و"العلمانية" وحتّى
حداثة الحامل وقدامة المحمول
من ناحية أخرى، يعاني العالم المعاصر من إشكاليّةٍ عميقة في صميمه، وهي اللاتناسب بين
من هنا، فإنَّ سطوة العلوم التطبيقية على العلوم الاجتماعية تكثّفُ بواكير التوتاليتاريا. لتصل هذه المفارقة في أقصاها، في ما يسمّونها "دول العالم الثالث"، حيث الفصام شبهُ كليّ بين الأداة التقنية الحاملة والقيمة الاجتماعية المحمولة. فلا يخفَى على أحدٍ، مثلاً، دور الوسائل التكنولوجية الحديثة في انتشار قيم الأصولية في كلّ العالم. ودور ثورة تكنولوجيا المعلومات، في مثال أكثر تخصيصاً، في كسر البنية الهرميّة لتنظيم القاعدة، إذ كان تنظيم القاعدة يعتمد على المركزية في القرار. أمَّا تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام فيعتمد على بنية أفقيّة أوسع في التفكير والمشاركة والإضافة، فلا مركزيّة هنا، وكلّ فرد هو مركز. ولا يمكن نكران دور ثورة تكنولوجيا المعلومات في هذا الانتقال من التواصل العمودي إلى الانتشار الأفقي.
من هنا، ظاهرة الأصولية الإسلامية، بقدر ما هي محليّة، فهي ظاهرة عالميّة، والإقرار بمسؤولية الجميع في توليدها، هو عملياً، أول خطوة في مواجهتها، بدلاً من أيديولوجيا "الحرب على الإرهاب" التي هي عموماً، لا تساهم سوى في تغذية "الإرهاب".