محاولات لكتابة السيرة النبوية: طريق غير مُعَبّد

10 يونيو 2016
(من مخطوط هندي يعود للقرن التاسع عشر)
+ الخط -
منذ عِشرينيات القرن الماضي، انصبَّ اهتمام مُؤرّخي الإسلام، أكانوا مُسلمين أو مُسْتشرقين، على إعادة كتابة السيرة النبوية، ونَقدها وتمحيص رواياتها، لإنتاجٍ خطابٍ عقلاني عنها، يتوافق مع مَنطق الوقائع، ويَحترم أساسيات التاريخ، ولا بأس إنْ حمل بعداً أخلاقياً أو أدبيّاً.

اشتهرت في هذا الإطار التحديثي أبحاثُ طه حسين، في إسلامياته ولا سيما "على هامش السيرة"، ومحمد حسين هَيكل في "مُحمّد"، وتوفيق الحكيم في السيرة المُمَسْرَحَة، وعباس محمود العَقاد في "عَبْقرياته" التي جادلَ من خلال فصولها أطروحات المستشرقين و"فنَّد مَزاعمهم". كلُّهم جَمع بين الأسلوب الأدبي والحسِّ التاريخي - النقدي الحاد، الهادِفَيْن إلى عَقْلنة التاريخ الإسلامي ونزع الأسْطَرَة عنه ولكن دونَ المساس بِقُدسيّتِه في المخيال الجماعي.

على أنَّ هذا المنحى المنهجي تَرَسَّخ في العقود القليلة الماضية، ولا سيما لدى الباحثين الألمان والأميركيين، الذين طوَّروا الدراسات القرآنية وتاريخ "تحرير النص القرآني" بالاعتماد على استنطاق اللغات السامية المعاصرة لعربية الإسلام، وبالعودة إلى الوثائق السريانية والإغريقية المكتوبة عَصْرئِذٍ، وظهرت كتابات باللغات الأوروبية عن سيرة النبي أشهرها سيرتا بلاشار ورودنسون.

وفي محاولة منهجية ضَخمة لإكمال هذا التيار التدويني وتَصحيحه، أصدَر المؤرخ التونسي هشام جعيّط، وباللغة العربية، ثلاثة أجزاء متتابعة حول سيرة النبي محمّد، بداية من سنة 2006، وذلكَ بَعد كتابه المرجعي عن الإسلام المبكّر "الفتنة الكبرى" (1990).

تَركّز عمل جعيّط في هذه الثلاثية على نقد المصادر التقليدية التي يعتمدها المُؤرّخون المعاصرون مهما كانت مصادرهم وهي: سيرة ابن اسحق، وسيرة ابن هشام، وطبقات ابنِ سعد، وأنساب الأشراف للبلاذُري، ومغازي الواقدي وتاريخ الرسل والملوك للطبري.

وقد كان المؤلف شديدَ الحرص على نقد هذه المصادر الأصلية لاعتماد سائر المكتوب في جنس السيرة عليها، فكان من البداهة أن يراجعَ أساسياتها ونظامها الفكري ويركّز تحاليله على تمحيص مَنهجها وبيان آليات الكتابة فيها باعتمادِ حسٍّ نقدي صارمٍ.

وفيه أكَّدَ الفصل التام بين التاريخي والأسطوري، بينَ المُقَدَّس والبشري في مجمل الروايات التي تناقلتها الأجيال، فأقصى أشْكال التدخّل الغيبية - في تعليله للوَقائع - حتى تكون السيرة المحمدية سلسلة من الأحداث المادية المَوثوقة التي يمكن أن تُفَسَّر بأحداثٍ مادية موثوقة هي الأخرى، وليس من خلال ربطها بِتَدخّلات ماورائية.

كما قام جعيّط بتنزيل السيرة النبوية في سياق التاريخ الاجتماعي - الاقتصادي للعالَم المعروف عصرَ ذاكَ بما في ذلكَ علاقات التبادل التجاري والثقافي مع الأمبراطوريتَيْن البيزنطية والفارسية، وسائر الثقافات الأخرى التي تعيش في جزيرة العرب وحواليها مثل اليهودية والنصرانية.

ولقد أولى المؤرّخ التونسي مكانة كبرى للتدقيق في مَفهوم الوَحي ومحاولة تفسيره بشكل علمي، ناقداً بذلك تقصير المستشرقين مثل نولدكه وفلهوزن وبلاشار في الأخذ بعين الاعتبار أولوية السيرة في دراسة الإسلاميات.

ولذا تَمَيَّزت كتابته بالقطيعة التامة مع النبرات التمجيدية والمناقبية التي تُؤَمثل الماضي، بل كانت أشبهَ بِمتابعة صارمة لكلِّ حدثٍ في سيرة النبي منذ ولادته وطفولته ونزول الوحي عليه والهجرة إلى يثربَ لإقامة دولة النبوّة فيها.

وفي خطٍّ مُوازٍ، ولكنه مختلفٌ شديد الاختلاف منهجاً ومضموناً، صدر في شهر مارس/آذار 2016 كتاب "الأيام الأخيرة لمحمد" لهالة الوردي (علمًا وأنَّها ليست مؤرخةً للإسلام ولا باحثة في الإسلامولوجيا، بل هي متخصّصة في الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر).

وقد تساءَلت المؤلفة في هذا الكتاب، الذي لم يكن جنسه واضحاً على وجه الدقة؛ أخيالٌ أم تأريخٌ، تَساءلت عن "الأسرار" التي أحاطت بوفاة النبي والظروف الغامضة التي اكتنفت أيامه الأخيرة مريضاً.

ودون أن نخوض هنا في التفاصيل التي عَرَضتها الباحثة، ولا مناقشتها، نكتفي بالإشارة إلى أنَّ الكتاب يَفتَح سلسلة من التساؤلات والتأويلات والفرضيات حول معلوماتٍ بقيت غامضة أو مُغلقَة على الرغم من طابعها المركزي مثل السبب الحقيقي في وفاة النبي، (هل هو بتأثيرٍ من السمّ أم بعيد إصابته بالتهابِ ذات الجَنَبِ؟)، ومثلَ سبب عدم استدعاء الطبيب لعلاجه خلال سَقَمِه ثلاثَةَ عَشَرَ يوماً، وسبب مَنعه من كتابة وصيّته وغيرها.

ولا يكتفي الكتاب بإثارة الأسئلة، بل يقدّم تأويلاً جديداً وجدلياً لها في محاولة لقراءتها على ضوء المصادر المتنوّعة، الشيعية والسنية. وغَنيٌّ عن الذكر أنَّ الكتاب أثار موجاتٍ عارمة من الاستياء، على الرغم من الحفاوة الإعلامية التي حَظيَ بها ولا سيما في القنوات الفرنكوفونيَّة.

في سياق التأريخ المُعاصر والمتكرّر للنَّبي، لا يَسعنا إلاَّ أن نَستحضرَ تاريخية إعادة كتابة السيرة، فكل خطاب جديد عنها يحمل إضاءاتٍ جديدة عن هذا العصر التأسيسي.

فكتابات جعيّط أو العقاد (التي تَعود إلى سنة 1937) إنما تحملُ السمات المعرفية لعصرهما وتكشف ما يحملانِه من هَمٍّ منهجي فكري، ومن توتّر عاطفي - ذاتي يسقطانِه بشكل لا واعٍ على وثائق الماضي، فتنطق بما يتَلاءم مع المنظور الآني للمؤرّخ، ومعَ نَوعية المعلومة التي يختارانها ضمنَ المُتاح المعرفي، إلى جانب الضغط التاريخي الذي يرزح تحته الفكر وأسلوبِ التعبير ومناهج البرهنة والتعليل.

يلاحَظ أيضاً أنَّ هذه الكتابات تتعامل بانتقائية واضحة مَع المصادر التقليدية. فإذا تَعَلَّق الأمر بحادث سلبي، يَتلاءم مع التأويل المناهض لمثالية هذه المرحلة، يضفونَ على المَصادر المعتمدة مَوثوقية عُليا، ويغيب كلُّ حسٍ نَقدي. (نلاحظ أنَّ هالة الوردي اعتمدت كل الأخبار المنسوبة إلى عائشة وحفصة دون أدنى تشكيك على الرّغم من طابعها الطائفي الصارخ). وإن كان الأمر متعلقاً بحادث مُشَرِّفٍ يؤكد ما درجت عليه الأجيال السابقة، عوملَ برَيْبية مبالغٍ فيها واعتُبرَ تَمجيدياً مَوضوعاً.

فهي إذن انتقائية تؤكد ارتباط الكتابة عن الماضي بإكراهات الحاضر والرغبة في تعقل التاريخ على ضَوءِ صراعات الآن. حالةٌ تدعو إلى ضَرورة القيام بحفرٍ فوكوي في الطبقات المفاهيمية لهذه الكتابات حتى لا تفضي هذه الأخيرة إلى خلق دوغمائية جديدة في حين أنَّ المسالة لا تعدو مُجرّد افتراضات وترجيحات لعصرٍ تبدّدت أجزاؤه في خبايا التاريخ وصراعات الرؤى التي تنافست على الرأسمال الرمزي للأمة طيلة القرون الأولى للإسلام. طريق السيرة لا يزال غير مُعَبدٍ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأويلية جديدة 

كتابة السيرة حديثاً هو تأويليَّة جديدة تسعى إلى نزع الأسطرة عن التاريخ بتصوير المراحل التأسيسية للإسلام كوقائع لم يكن من الأكيد أن تصلَ إلى ما وصلت إليه، بل كانت مجرّدَ احتمالٍ من احتمالات التاريخ، وهي تستند إلى كتابات وُضعت في القرون اللاحقة من أجيال المسلمين الأولى وكُتبت بحثاً عن "طور تأسيسي مثالي"، ثم جرى التنازع عليها ضمن الخلافات بين الفرق الإسلامية، ما يجعل الجزم بصدقها من الاستحالة بمكان.



المساهمون