على بعد بضعة أمتار من الأحياء السكنية في منطقة المظيلة، بالقرب من العاصمة التونسية، تتصاعد الغازات والروائح الخانقة، التي تزداد حدة كلّما اقترب المرء من المجمع الكيميائي الذي يستغيث منه الأهالي منذ زمن.
يصف سكان منطقة المظيلة، جنوب غرب تونس العاصمة، المجمع الكيميائي الصناعي هناك، بـ"مجمع الموت"، مؤكدين أنّ حياتهم تحوّلت إلى كابوس بسبب التلوث الناشئ عنه، والذي يهدد البيئة، والصحة، وحقهم في العيش الكريم.
يؤكد الموظف المتقاعد، نور الدين سالم، وهو رئيس جمعية رياضية، من سكان المظيلة، أنّهم يعيشون على وقع كارثة إنسانية بسبب المجمع الكيميائي، الذي مضى على وجوده نحو 36 عاماً، ما سبّب عدة مضار للسكان الذين بات بعضهم يعاني من أمراض عدة انتشرت بنسق غير مسبوق، ليفاجأوا بمحاولة الدولة تأسيس مصنع كيميائي ثانٍ داخل المجمع، لكنّهم تصدوا له ولم يجرِ تشغيله حتى اليوم. يشرح سالم أنّ المظيلة كانت من أجمل المناطق سابقاً، لكن منذ بدأ المجمع الكيميائي عمله عام 1984 نزح كثيرون من هناك بسبب التلوث، مشيراً إلى أنّ المنطقة ومنطقة القطار القريبة أيضاً من المجمع الكيميائي كانتا تضمان مساحات شاسعة من أشجار النخيل المثمرة، وأجود الغلال الزراعية، لكنّ أغلب الزراعات تضررت وأتلفت، فتحولت الأراضي إلى مساحات مهجورة. ويقول إنّهم كثفوا خلال الفترة الأخيرة من التحركات الاحتجاجية، كي لا تبقى المظيلة منسية.
بدوره، تحرك المجلس البلدي بالمظيلة أخيراً، ليرفع شكوى ضد المجمع الكيميائي. ويؤكد رئيس بلدية المظيلة، حافظ هنشيري لـ"العربي الجديد" أنّ البلدية رفعت الشكوى ضد المجمع، في المحكمة الابتدائية، بسبب التلوث الصناعي والكوارث البيئية وخصوصاً تلوث الهواء، مضيفاً أنّ البلدية اكتشفت أنّ المجمع الكيميائي يعمل منذ أكثر من ثلاثين عاماً من دون ترخيص، بالرغم من أنّه مصنف ضمن الأنشطة الخطرة. يقول هنشيري إنّ الدولة عمدت إلى تأسيس مجمع ثانٍ، وفوجئوا أيضاً بأنّه من دون ترخيص قانوني، موضحاً أنّ "التراخيص تحتاج إلى دراسات وإجراءات عدة، وللأسف لم يجرِ التقيد بكلّ هذه الخطوات، ما يعني غياب التراخيص القانونية للمصنعين". ويشير إلى أنّهم بعد رفع القضية ومقاضاة المجمع الكيميائي، سيدرسون الخطوات المقبلة، التي قد تصل إلى حدّ إغلاق المصنع ووقف نشاطه، ما دام غير قانوني.
ويلفت إلى أنّ من المفارقات الغريبة، أنّ المجمع قريب جداً من الأحياء السكنية، ولا يبعد عنها إلا بضعة أمتار، ويجزم بأنّهم لن يتراجعوا عن الدفاع عن أهالي المنطقة، وحقهم في بيئة سليمة، وسيواصلون الضغط بالتنسيق مع المجتمع المدني من أجل تطبيق القانون وحماية السكان من المضاعفات الحاصلة من جراء التلوث الملحوظ بالعين المجردة. ويضيف أنّه بالرغم من محاولتهم كسلطة جهوية دعوة المسؤولين عن المجمع إلى جلسات للنقاش وتباحث الحلول الممكنة حول هذا الملف، يجري تجاهل نداءاتهم، ولا تلبّى الدعوات، مؤكداً أنّ القضاء سيكون الفيصل فيما بينهم.
من جهته، يعتبر رئيس جمعية البيئة والتوعية في المظيلة، حسين رزيق، في حديث إلى "العربي الجديد" أنّ المظيلة تعيش كارثة حقيقية بسبب المصنع الكيميائي، فبعد اطلاعهم على دراسات لأنشطة الفوسفات والأسمدة، خلصوا إلى أنّ تلوث الهواء يفوق المعدلات الطبيعية، ما يحرمهم الهواء النقي وبيئة سليمة. ويؤكد أنّه حتى على المستوى الصحي، يعتبر الوضع دقيقاً بعد تفشي أمراض سرطانية وأمراض في العيون، إلى جانب تلوث المياه والأراضي القريبة من المجمع. ويوضح أنّ إشعاع الفوسفوجبس والبخارة (مواد كيميائية) في المنطقة حرمهم العيش في بيئة سليمة ونقية، مشيراً إلى أنّ إفراز هذه السموم يتكثف بعد الواحدة ليلاً، ما يسبب حالات اختناق، ولا سيما لدى المسنين والأطفال، مضيفاً أنّهم راسلوا جمعيات حقوقية في الخارج أكدت جميعها أنّ مكان المجمع بالقرب من السكان مخالف للقانون.
كذلك، يلفت عضو التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية التابعة للمنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، بوبكر العكرمي في حديث إلى "العربي الجديد" إلى أنّ المجمع الكيميائي نغّص عيش السكان في المظيلة، وحوّله إلى كابوس بسبب انتشار الأمراض في صفوفهم، إلى جانب مضار عدة لحقت بالأراضي والمياه الجوفية. ويضيف أنّ من حق أهالي المظيلة العيش في بيئة سليمة وحياة كريمة وفق ما ينص عليه الدستور التونسي، وعلى الدولة تحمّل مسؤوليتها، والاهتمام بهذا الملف ذي الأولوية، وإيجاد الحلول التي تحدّ من التلوث الصناعي، لأنّ غايتهم ليست إيقاف الإنتاج أو إغلاق المجمع، وبالتالي طرد العمال، بل إيجاد الحلول المناسبة وضمان الحق في بيئة سليمة، مؤكداً أنّهم سيواصلون مساندة الأهالي، والانخراط في التحركات الميدانية، إذ من المنتظر عقد اجتماع قريباً لإعلان الخطوات التصعيدية لمزيد من التوعية بهذا الملف. ويشير إلى أنّه لا بدّ من التصدي لهذه الجريمة ووضع حدّ لما يحصل في منطقتهم التي تعاني من التهميش والإقصاء، كأنّه كتب على سكانها المعاناة من دون أن يستفيدوا بشيء من المجمع الكيميائي، فلا التوظيف تحقق لأبناء المنطقة، ولا جرى النهوض بالتنمية، مضيفاً أنّ كلّ ما غنموه هو الإفرازات السامة والإشعاعات الكيميائية والتلوث.
في المقابل، يقول مدير التأهيل البيئي في الإدارة الجهوية، طارق الأسود، إنّ المجمع واعٍ منذ عام 2008 بالمشاكل البيئية لأنشطة قطاع الأسمدة وانعكاساتها السلبية على البيئة في المظيلة، مضيفاً في تصريح إعلامي أنّ المجمع خطا خطوات عملية نحو إيجاد حلول ستساهم في الحدّ بنسبة 80 في المائة من تلوث الهواء والتربة ومن الانبعاثات الملوثة. يضيف أنّه جرت برمجة عدة مشاريع، منها مشروع الامتصاص المضاعف بوحدة الحامض الكبريتي، وهو بصدد الإنجاز، إلى جانب إقرار مشروعين يهمان تجهيز مصبّ لتكديس الفوسفات في مصنعي المظيلة 1 و2، لكنّ المشروعين معطلان بسبب مشاكل عقارية في المنطقة.
وشهدت تونس في السنوات الأخيرة احتجاجات كثيرة للأهالي والناشطين البيئيين، ضدّ التلوث، ولا سيما التلوث الصناعي الذي تسببه منشآت استخراج الفوسفات وغيره من مواد ومركبات كيميائية.