كان يمكن لمتابعي أخبار أميركا في عهد دونالد ترامب منذ وصوله إلى الحكم، توقع القرار الأميركي الجديد بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي لا يخرج فعلياً عن السياسة التي يعمل ترامب على تطبيقها عبر إحاطة نفسه بمستشارين يشاركونه في تجاهله للمعاهدات الدولية وحتى احتقاره للمنظمات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة، ومن أبرز هؤلاء مستشاره للأمن القومي جون بولتون، الذي لم يتوانَ عن القول يوماً إنه "لا توجد أمم متحدة... هناك مجتمع دولي تمكن قيادته من وقت لآخر بالقوة الوحيدة الحقيقية المتبقية في العالم، وهي الولايات المتحدة، وذلك كلما تناسب هذا الدور مع المصالح الأميركية وكلما استطعنا جعل الآخرين يسيرون معنا".
فكيف إذا كان المقصود مجلس حقوق الإنسان، الذي تضاربت الكثير من قراراته مع رغبات الولايات المتحدة، وخصوصاً في القضية الفلسطينية، مع إدانته للجرائم الإسرائيلية حيال الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ يضع المجلس على جدول أعماله بنداً ثابتاً يُعرف بالبند السابع يتعلق بالانتهاكات التي يشتبه بأن إسرائيل ترتكبها في الأراضي الفلسطينية، وكانت واشنطن قد انتقدت المجلس باستمرار لإدراجه ممارسات إسرائيل على جدول أعمال كل جلساته السنوية الثلاث. وما يزعج واشنطن أكثر، هو عدم قدرتها على عرقلة نشاط المجلس في اتخاذ قرارات تدين الاحتلال وتصب لصالح الفلسطينيين، كان آخرها تصويت المجلس الشهر الماضي لصالح إجراء تحقيق في سقوط ضحايا في قطاع غزة واتهامه إسرائيل بالاستخدام المفرط للقوة، على الرغم من تصويت الولايات المتحدة وأستراليا وحدهما برفض ذلك. كما اعتمد المجلس قرارات تؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة، وقراراً آخر يدين أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية ويطالب إسرائيل بالانسحاب إلى حدود 1967 والوقف الفوري لكل الانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني، ودعا لاتخاذ تدابير عاجلة لحماية حقوق الشعب الفلسطيني ووقف بناء الجدار العازل وأي تدابير تغير من البنية الجغرافية والديمغرافية للأراضي المحتلة.
وأمام القرار الأميركي الجديد بالانسحاب، لم يعد مجدياً الحديث عن كون واشنطن وسيطاً محايداً يمكن أن يقود عملية سلام في الشرق الأوسط، وهو مسار لا يمكن أن يخرج عن المصلحة الإسرائيلية وفق ما تسرب من الصفقة التي تعمل إدارة ترامب لتقديمها كحل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ولم يكن قرار واشنطن العدائي ضد المجلس، جديداً، فالولايات المتحدة رفضت الانضمام لهذه الهيئة التابعة للأمم المتحدة والتي تتخذ من جنيف مقراً لها، عند إنشائها في 2006، في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، عندما كان جون بولتون، سفيراً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة. ولم تنضم واشنطن إلى المجلس إلا في 2009 بعد وصول باراك أوباما إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، حين انتخبت الجمعية العامة للأمم المتحدة الولايات المتحدة في المجلس لدورتين متتاليتين، وهو حد أقصى للدورات المتتالية. وبعد غياب لعام، انتُخبت واشنطن مجدداً في 2016 لفترتها الثالثة الحالية، هي اليوم في منتصف فترة عضوية مدتها ثلاث سنوات في المجلس الذي مقره جنيف ويضم 47 عضواً. وبذلك تكون الولايات المتحدة أول عضو ينسحب من المجلس.
ويجتمع مجلس حقوق الإنسان في ثلاث دورات في كل عام لبحث الانتهاكات الحقوقية في أنحاء العالم. وكلف محققين مستقلين ببحث الأوضاع في دول منها سورية وكوريا الشمالية وميانمار وجنوب السودان. وقراراته ليست ملزمة قانوناً لكنها تحمل سلطة أخلاقية. وهو تأسس في 2006 ليحل محل مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بعد أن تعرضت لانتقادات كبيرة. ويتم انتخاب 47 دولة من مختلف أنحاء العالم للحصول على عضوية المجلس مدة ثلاث سنوات، وتجتمع ثلاث مرات في العام واحد. وتعمل الدول الأعضاء في الاجتماعات على مراجعة سجلات حقوق الإنسان لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عملية خاصة، ويمنح المجلس الدول الفرصة لعرض ما قدمته لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، والمعروف بأنه "الاستعراض الدوري الشامل".
ولم تُخفِ واشنطن حقيقة دوافعها وراء الانسحاب من المجلس، إذ قال بومبيو الثلاثاء إن "انحياز المجلس المتواصل والموثق بشكل جيد ضد إسرائيل تجاوز الحدود، فمنذ تأسيسه، تبنّى المجلس عدداً من القرارات التي تدين إسرائيل تفوق تلك التي أصدرها على دول العالم مجتمعة". كذلك فإن القرار الأميركي جاء بعدما انتقد المجلس واشنطن بسبب فصلها للأبناء القاصرين للمهاجرين غير الشرعيين عن ذويهم الذين يتطلعون للحصول على لجوء بعد دخولهم البلاد من المكسيك. ووصف مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، الأمير زيد رعد بن الحسين، هذه السياسة يوم الاثنين بأنها "غير رحيمة".
لكن هيلي وبومبيو أكدا أن القرار اتُخذ بعد سنة من الجهود لدفع المجلس إلى القيام بإصلاحات، واستبعاد الدول الأعضاء التي ترتكب تجاوزات، منه. وقالت هيلي "نحن بحاجة إلى هذه الإصلاحات لنجعل المجلس محامياً جدياً مدافعاً عن حقوق الإنسان". وأضافت "لفترة طويلة كان مجلس حقوق الإنسان حامياً لمرتكبي تجاوزات لحقوق الإنسان ومرتعاً للانحياز السياسي". وتابعت "للأسف، من الواضح الآن أن دعوتنا إلى الإصلاح لم تلق آذاناً صاغية". واعتبرت هيلي أن مجلس حقوق الإنسان قصّر في توجيه انتقادات لانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان من قِبل دول "معادية للولايات المتحدة مثل فنزويلا وكوبا". ولم تذكر السعودية التي ضغطت جماعات حقوقية من أجل تعليق عضويتها في 2016 بسبب مقتل مدنيين في حرب اليمن. ومن بين الإصلاحات التي كانت تضغط الولايات المتحدة من أجل تبنيها، تسهيل طرد الدول ذات السجل السيئ في مجال حقوق الإنسان. ويلزم حالياً تصويت بأغلبية الثلثين في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تضم 193 دولة لتعليق عضوية إحدى الدول.
مقابل ذلك، كانت الانتقادات تعلو في وجه الخطوة الأميركية. فقد عبّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عن أسفه للقرار الأميركي. وقال في بيان إن "بنية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تلعب دوراً هاماً للغاية في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في جميع أنحاء العالم". كما وصف زيد رعد بن الحسين، القرار الأميركي بـ"المخيب للآمال"، معتبراً أنه "كان يتعين على الولايات المتحدة أن تتقدّم للأمام بدلاً من الرجوع للوراء؛ لا سيما في ظل ما نشاهده من أوضاع حقوق الإنسان في العالم بالوقت الراهن"، مؤكداً أن قرار واشنطن الانسحاب من المجلس المذكور "لم يكن مفاجئاً".
من جهته، شدد رئيس مجلس حقوق الإنسان، فويسلاف سوك، على ضرورة اتخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار سد الفراغ بالمجلس الناتج عن انسحاب الولايات المتحدة. كما رأى الاتحاد الأوروبي أن القرار الأميركي "يجازف بتقويض دور الولايات المتحدة كمدافعة عن الديمقراطية وداعمة لها على الساحة العالمية". وقال وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون إن الانسحاب مؤسف، وإن المجلس "أفضل أداة لدى المجتمع الدولي للتصدي للإفلات من العقاب".
وانتقدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الخطوة الأميركية. وأكد المدير التنفيذي للمنظمة كينيث روث أن "انسحاب إدارة ترامب هو انعكاس مؤسف لسياسة أحادية البعد في ما يتعلق بحقوق الإنسان" تتلخص "بالدفاع عن الانتهاكات الإسرائيلية في وجه أي انتقادات قبل كل شيء". ولفتت المنظمة إلى أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة "لعب دوراً مهماً في دول على غرار كوريا الشمالية وسورية وبورما وجنوب السودان، لكن على ما يبدو كل ما يهم ترامب هو الدفاع عن إسرائيل".
كذلك حذرت 12 جماعة حقوقية وإغاثية، منها "هيومن رايتس فيرست" و"أنقذوا الأطفال" و"كير"، من أن انسحاب واشنطن "سيجعل من الصعب تعزيز أولويات حقوق الإنسان ومساعدة ضحايا الانتهاكات حول العالم". وقال جميل دكوار مدير برنامج حقوق الإنسان في الاتحاد الأميركي للحريات المدنية إن اتباع ترامب "سياسة الانعزالية المضللة إنما يضر المصالح الأميركية فحسب".
من جهته، اعتبر المتحدث باسم حركة "حماس"، سامي أبو زهري، في تغريدة على "تويتر"، أن "انسحاب أميركا من مجلس حقوق الإنسان يعكس ازدياد عزلتها الدولية، وأنها لم تعد قادرة على تبرير ممارساتها الاجرامية ودعمها للإرهاب الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني".
مقابل ذلك، تبدو بعض الدول مستفيدة من الانسحاب الأميركي. وبحسب وكالة "رويترز"، يقول دبلوماسيون إن الانسحاب الأميركي قد يقوي شوكة دول مثل كوبا وروسيا وباكستان التي تقاوم ما تراه تدخّل الأمم المتحدة في قضايا سيادية. وفي هذا السياق، برزت مسارعة موسكو للإعلان عبر مندوبها لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، أن بلاده تقدّمت بطلب لترشيح نفسها في انتخابات مجلس حقوق الإنسان للفترة الممتدة بين 2021 و2023، وذلك بعد ساعات قليلة من الإعلان الأميركي.