مجلس التعاون بعد قمة الكويت
استضافت الكويت يوم الثلاثاء، 5 كانون الأول/ ديسمبر 2017، القمة الدورية الثامنة والثلاثين لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وكان مقررًا أن تستمر أعمال القمة مدة يومين، إلا أنها اختُصِرت في ساعة واحدة فقط؛ بسبب التمثيل المنخفض لبعض الدول الأعضاء. وباستثناء أمير قطر الذي رَأَس وفد بلاده في اجتماعات القمة، غاب زعماء السعودية والإمارات والبحرين؛ ما عُدَّ نكسة كبيرة لجهود الوساطة لحل الأزمة الخليجية التي يبذلها أمير الدولة المضيفة الشيخ صباح الأحمد الصباح. وأصدرت القمة بيانًا تجاهل تمامًا وجود الأزمة الخليجية. وتزامنًا مع انعقاد القمة أعلنت الإمارات والسعودية عن إنشاء لجنة للتعاون والتنسيق المشترك، تشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية بينهما، ويرأسها ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد.
أزمة قمة أم قمة أزمة؟
مثّلت الأزمة الخليجية التحدي الأبرز للمنظومة الإقليمية الخليجية، منذ نشأتها في أيار/ مايو 1981؛ فقد تفجرت الأزمة عندما أقدمت ثلاث دول خليجية أعضاء في مجلس التعاون (السعودية والإمارات والبحرين)، بالتحالف والتضامن مع دولة غير عضو (مصر)، في 5 حزيران/ يونيو 2017، على قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولةٍ عضوٍ (قطر)، وفرض حصار بري وبحري وجوي عليها. وقد جاءت هذه الأزمة على خلفية اختراق وكالة الأنباء القطرية في 24 أيار/ مايو 2017، ونشر تصريحات كاذبة، زُعِم أنّ أمير دولة قطر أدلى بها، تتعارض مع سياسات دول الحصار ومواقفها. وخلال الأشهر الستة التي فصلت بين تفجر الأزمة وانعقاد القمة، حاولت الوساطة الكويتية تطويق الأزمة التي كادت، بحسب أمير الكويت نفسه، أن تصل إلى درجة العمل المسلح ضد قطر. كما حاولت دول عديدة أخرى، من بينها الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، الدخول على خط مساعي احتواء الأزمة التي أثارت اهتمامًا عالميًا؛ نظرًا إلى ثقل منطقة الخليج المالي والطاقوي في الاقتصاد العالمي، وأهميتها الجيوسياسية، إلا أن كل هذه الجهود فشلت في تغيير موقف دول الحصار التي لم
ترض بأقل من استسلام قطر التام، وقبولها غير المشروط بالمطالب التي قدمتها في بداية الأزمة جميعها، وشملت، من بين عدّة أمور، إغلاق قناة "الجزيرة"، ومنابر إعلامية أخرى، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية على الأراضي القطرية، وقيام قطر بدفع تعويضات لدول الحصار مقابل ما وصفته الوثيقة بالضرر الذي ألحقته السياسات القطرية بها، وتسليم جميع أفراد المعارضة من الدول الأربع الموجودين في دولة قطر إلى بلدانهم، وغير ذلك من مطالب عدتها الدوحة مساسًا غير مقبول بسيادتها.
وحتى أيام قليلة قبل توجيه أمير الكويت دعوات رسمية لحضور القمة إلى زعماء الدول الأعضاء، لم يكن واضحًا إن كانت القمة ستعقد في موعدها المعتاد أم ستؤجّل؛ لأن أمير الكويت كان مهتمًا بحضور أعلى تمثيل للدول الأعضاء، باعتبار أن نجاحه في جمع زعماء الدول الأطراف في الأزمة سيمثل اختراقًا مهمًا على طريق حلها. وكان أمير الكويت قد رفض طلبًا لنقل مكان انعقاد القمة؛ خشية استبعاد دولة قطر التي طالب وزير خارجية البحرين بتعليق عضويتها في مجلس التعاون. وعندما أعلنت الكويت عن موعد عقد القمة؛ سرى انطباع بأن أميرها حصل على موافقة أكثر الدول الأعضاء على الحضور على مستوى الرؤساء؛ ما يفسر سبب اختصارها نتيجة إخلال بعض قادة الدول بتعهداتهم بالحضور.
بيان "منفصل" عن الواقع
ولم يكن غياب زعماء دول الحصار عن القمة السبب الوحيد في تواضع نتائجها، بل جاء إصرار هذه الدول على تجاهل الأزمة الخليجية، وعدم التطرق إليها في مداولات المجلس الوزاري، وكذا في اجتماع القمة، متناقضًا تمامًا مع ما كان يؤمَل من إمكان تمهيد الأجواء للبدء بحوار لحل الأزمة. بناء على ذلك؛ جاء البيان الختامي خاليًا من أي إشارة إلى الأزمة الخليجية، وكأنها غير موجودة. فوق ذلك؛ جاءت صيغة البيان الذي تلاه الأمين العام لمجلس التعاون في صفحتين رتيبًا وتقليديًا، وكأن المجلس يمر بظروف عادية، ولا يواجه تحديًا وجوديًا؛ إذ أكد أن مسؤولي الدول الست الأعضاء "يؤكدون أهمية التمسك بمسيرة مجلس التعاون الخليجي، لمواجهة كافة التحديات، وتحييد دول مجلس التعاون عن تداعياتها، وتعميق الصلات بين شعوب دولها في مختلف المجالات". جاء هذا الكلام في الوقت الذي يُمنَع فيه مواطنو دولة قطر من دخول أراضي السعودية والإمارات، في حين أعادت البحرين فرض
تأشيرة على دخولهم أراضيها، في خرق للاتفاقيات الخاصة بحرية الحركة والتنقل للمواطنين بين الدول الأعضاء. وفي حين شدد البيان الذي جاء منفصلًا بصورة كلية عن الواقع، على أن دول المجلس ماضية في استكمال خطط التكامل الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية؛ أثار الاستغراب الحديث عن "أولوية العمل على تحقيق الوحدة الاقتصادية والجمركية والتجارية بين الدول الأعضاء بحلول عام 2025 وفق برامج محددة"؛ إذ تتعرض دولة عضو للحصار والمقاطعة على يد ثلاث دول أعضاء، وواجهت في مرحلة من مراحل الأزمة تهديدًا عسكريًا بالغزو من داخل منظومة العمل الخليجي المشترك.
ولا يعني هذا التجاهل سوى إصرار الدول الثلاث التي رفضت بشدة طرح موضوع الأزمة على جدول الأعمال، على استمرار حصارها لقطر وسياستها العدائية تجاهها، ومن ثم تحويل المجلس إلى هيئة صورية تصدر بيانات لا علاقة لها بالواقع.
مستقبل مجلس التعاون
منذ بداية الأزمة الخليجية، غدا مستقبل مجلس التعاون الذي كان يعد أكثر منظومات العمل الإقليمي العربي المشترك نجاحًا، مطروحًا للتساؤل. لكن الفشل في جمع قادة الدول الأعضاء في القمة الثامنة والثلاثين في الكويت، وذهاب السعودية والإمارات باتجاه الإعلان عن إنشاء لجنة للتعاون والتنسيق المشترك خارج إطار المجلس، وبروز مواقف بحرينية تدعو إلى تعليق عضوية قطر في المجلس؛ كل ذلك جعل إمكان استمرار مجلس التعاون محل شك كبير. ومنذ بداية الأزمة بدأ يتشكل في إطار منظومة مجلس التعاون تمايز واضح بين تكتلين؛ يمثل الأول دول الحصار الثلاث (السعودية والإمارات والبحرين)، وينتظم في الثاني الدول التي تحاول الحفاظ على استقلالية قرارها ولا سيما قطر وعُمان، بينما تحاول الكويت أن تأخذ مسافة واحدة من الطرفين، وذلك رغم وجود مخاوف تعبر عنها أوساط كويتية من تنامي نزعات الهيمنة لدى الدول الأكبر في المنظومة الخليجية اتجاه الدول الصغرى. ومع أن القمة بدت كأنها عقدت للحيلولة دون انفراط عقد مجلس التعاون، فإنها أسهمت أكثر في الكشف عن حجم التصدع الذي ضرب المنظومة الخليجية؛ نتيجة أزمة حصار قطر.
ولا يبدو أن تعاظم التحديات السياسية والاقتصادية وتصاعد التهديدات الإستراتيجية التي تواجهها دول الحصار، وتداعي المنظومة الخليجية بسبب تعنتها تجاه الأزمة، يؤثران في
مواقفها. فالوضع في اليمن، على الصعيدين الإنساني والأمني، يزداد سوءًا في ظل عجز التحالف السعودي - الإماراتي عن تحقيق أي نتائج في مواجهة الميليشيات الحوثية التي انقلبت على مخرجات الحوار الوطني، واستولت على السلطة عام 2014. أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الحليف الذي تعتمد دول الحصار عليه في مواجهة إيران، فقد وضع المنطقة وحلفاءه في مأزق كبير، بإعلان اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، في الوقت الذي أخذت تتسارع فيه خطوات التطبيع بين دول الحصار وإسرائيل. لقد أحرج ترامب بخطوته حلفاءه المخلصين؛ حكام السعودية والإمارات. أما على صعيد المعركة الإعلامية في الغرب فقد فشلت دول الحصار، رغم الأموال الطائلة التي أنفقتها على حملات العلاقات العامة وفي مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، في تحقيق أي اختراق على صعيد مواجهتها مع قطر.
خاتمة
بات من المؤكد، بعد فشل قمة الكويت في رأب الصدع في المنظومة الخليجية، أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية قد دخل حالة من الشلل التام، قد تؤدي إلى انهياره كليًا مع تبلور تيارين داخله. وبعد خمس سنوات من طرح السعودية مبادرتها حول تحويل مجلس التعاون من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، انطلاقًا من حجم التهديدات التي تواجهها دول الخليج العربية، يبدو أن المجلس في طريقه إلى التفكك؛ فالسعودية، صاحبة طرح الاندماج، تذهب في الاتجاه المعاكس تمامًا باتباعها سياسات تسهم في تفكيك المجلس، عبر تأسيس صيغ ثنائية خارجَه (مع الإمارات)، وعبر تبني سياسة عزل قطر وحصارها. وبات من الواضح أيضًا، في ظل رفض دول الحصار أي شكل من أشكال الحوار مع قطر لحل الأزمة، ورفض كل مساعي الوساطة لتطويقها؛ أن هناك سياسة تسعى لتطبيع حالة "حصار قطر" بوصفها حالة دائمة، والرهان على فاعلية الحصار، واستنزاف قطر اقتصاديًا، والضغط عليها سياسيًا وإعلاميًا، بعد أن فشل خيار التدخل العسكري في بداية الأزمة. ويبدو أن قطر تدرك هذا التحدي وتطور سياستها واقتصادها بموجبه. لكن دول الحصار تنسى أن وضعها الجيوسياسي أيضًا بات في طور الأزمة؛ نتيجة الأوضاع في اليمن، وفشل الرهان على استقلال الأكراد، والغضب الشعبي على تحالفها الحصري مع ترامب وتعويلها المطلق عليه، وانهيار قدرتها على التأثير حتى في أقرب حلفائها؛ بدليل ما حصل في أزمة استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وترحيل أحمد شفيق إلى مصر.