مجرّد مغدورة ثانية

15 يناير 2018

(نبيل المالح)

+ الخط -
تم زجّها موقوفةً في السجن، بعد استكمال إجراءات التحقيق بحسب الأصول، وبعد أن وجه إليها مدّعي عام الجنايات الكبرى تهمة الضرب المفضي إلى الموت، تمهيدا لمحاكمتها وتقرير العقوبة الرادعة إحقاقا للعدالة.. حاولت القاتلة العشرينية التي أقدمت على تعذيب صغيرتها، ذات السنوات الثلاث، وقتلها ركلا وضربا وحرقا بالماء الساخن، الإنكار، مدّعية أن الأمر مجرد حادث، وأن الصغيرة غافلتها، حين كانت تهم بالاستحمام، ونزلت إلى الحوض الممتلئ بالماء الساخن، فماتت قضاءً وقدرا، غير أن آثار التعذيب على مختلف أنحاء جسد الضحية المغدورة التي تمتد إلى مدة شهر على أقل تقدير أكدت وقوع الشبهة الجرمية للوفاة.
قصة مأساوية جديدة حدثت في مطلع العام الجديد، في تأكيد على استمرار أشكال الاضطهاد الذي يقع على النساء في مجتمعاتٍ معاديةٍ للأنوثة، خائفة على الدوام منها، وتتعامل معها باعتبارها تهديدا قائما للشرف، ومصدار وحيدا لجلب العار. تبين أن للقاتلة الصغيرة ملفا كبيرا في إدارة مكتب حماية الأسرة التابع للأمن العام، كونها ضحية اغتصاب تعرّضت له، ولم يتعدّ عمرها الخامسة عشرة. واستنادا إلى المادة 308 سيئة الذكر التي تم، لحسن الحظ، إلغاؤها في مرحلةٍ لاحقة، فقد نجا المجرم من العقوبة، بعد أن تم التوافق على تزويجه من الضحية زواجا لم يدم طويلا بطبيعة الحال. ولنا أن نتخيل مقدار الأذى النفسي الذي شوّه شخصيتها، وأثر على مداركها، وقتل روحها بدون أدنى شك. وعوضا عن العمل على العلاج النفسي طويل الأمد، تحتاجه ضحايا الاغتصاب في العادة، ويتطلب توفر مساعدة مختصين يحملون شهادات عليا، ويتمتعون بمهاراتٍ تمكّنهم من التعامل مع هذا النوع الحساس من الضحايا، بدل أن تحظى بذلك كله، تم تزويج الطفلة ثانية، وانتهى زواجها الثاني بطلاق سريع، وسرعان ما أعيد تزويجها للمرة الثالثة، والله وحده يعلم حجم الضغوط النفسية الهائلة التي رزحت تحت تأثيرها، وحوّلتها إلى قاتلة مضطربة الشخصية، وربما مختلة نفسيا وعقليا، بحيث تصب جام غضبها الكامن عبر سنواتٍ من الانتهاك على طفلةٍ صغيرةٍ، ليس لها اي ذنب سوى أنها أقامت في رحم أمها تسعة أشهر لم تشفع لها.
ولم تتمكّن غريزة الأمومة التي تعزّز الرأفة والرحمة والعطف والحنان في المخلوقات جميعها، لم تتمكّن هذه الغريزة، على الرغم من سطوتها بحكم الطبيعة، من ترميم ما جرى في روحها المنتهكة من تدمير وتشويه، ومن مصادرة حقها في النضج والاختيار والتعافي إثر الجرح النفسي الغائر، والاقتصاص ممن اعتدى على طفولتها من خلال ثلاث زيجات غاشمة، في جوهرها، جرائم نكراء، كان جسد الطفلة المستباحة مسرحا لها. ومع الإقرار بقبح الجريمة، على أي محكمة مراعاة هذه الظروف غير الإنسانية، وتأخذها بالاعتبار. ولا بد من إخضاع القاتلة لفحص نفسي وعقلي ومسلكي دقيق، إذ من المؤكد أنه لا يمكن لشخصٍ سويٍّ أن يقدم على فعلٍ قبيح كهذا بحق أحد من حيث المبدأ، فكيف إذا كان هذا الأحد صغيرها الذي ينبغي أن تحميه برمش العين، وتضحي بنفسها من أجله في الظروف العادية، غير أن الظرف هنا ليس عاديا، بل يمثل حالةً مؤلمة من شذوذ الطبيعة. الأم هنا مجرد ضحية، تم الاستخفاف بمقدار الضرر في تركيبتها النفسية، وقد جرى التواطؤ ضد ألمها من خلال تسوية مجحفة، ومحاولة بائسة لتغطية الجرح الدامي الذي تحول، مع مرور الأيام، إلى ورم خبيث، من قهر وغضب ظل ينمو بصمت مرعب، وقد دفعت ثمنه، من دون أي ذنب، ابنتها الصغيرة سليلة القهر والألم، ضحية جديدة، يغيب اسمها الذي سوف يتحول في سجلات محاكم الجنايات إلى مجرد مغدورة ثانية، بلا ملامح فارقة، باستثناء آثار التعذيب على جسدها الطفل، مسلوب الحق في الحياة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.