متى تصلح الدولة للتغيير؟

06 يوليو 2017
+ الخط -
لعل أهم ما تخلو منه حقيبة الحركات الاحتجاجية المعاصرة الفعل الجماعي العنيف. وبتخليها عن العنف، تكون هذه الحركات قد سلمت للدولة بأنها الفاعل الوحيد الذي من حقه استعمال العنف، بشرط أن لا يكون الهدف الرئيسي لذلك هو تسليط الألم على الأجساد البشرية، مهما كانت الشرعية والتناسب التي تستند عليهما.
وفي اعتبارنا أنه بإغلاق الحركات الاجتماعية لقوس العنف، تكون قد أعلنت عن هويتها السلمية والإصلاحية، من دون أن يعني هذا تنازلها عن مطالبة الدولة بالتزام السلمية أيضا والاقتصار فقط على معاقبة من تورّط في الانتهاكات أو الفساد وإصلاح الأوضاع التي أدّت إلى اندلاع الحركة.
السؤال الذي تواجهه الحركات الاحتجاجية من داخلها هو مدى نجاعة الدولة جهازاً راغبا في التغيير وقادرا عليه؟ وللجواب على هذا السؤال، تحاول التأكد إن نظرتها لهذه الدولة هي نفسها التي تحملها الدولة عن نفسها، أم أن الأمر مختلفٌ بين فهمها للدولة وفهم الأخيرة لنفسها.
الذين يعتبرون أن أحداث مايو 1968 في فرنسا تشكل خط استواء بين الحركات الاجتماعية التقليدية والحركات المعاصرة، لا يفارقهم الصواب فيما قالوا، وفي تقديرنا أنّ جانب الصواب يكمن في أن الحركات الاحتجاجية المعاصرة هي التي تندلع نتيجة الاختلاف المهوّل في فهم الدولة وظيفتها وفهم المواطن تلك الوظيفة، ما يستوجب تدخل المواطن من خارج آليات الدولة، لتصحيح الوضع كما حصل في فرنسا. وإنّ من شأن توضيح الفرق بين الحركات التي تنتج عن هذا الاختلاف في الفهم والحركات التي تندلع، وهي على انسجام تام بينها وبين الدولة حول نظرة كل طرفٍ إلى وظيفته ووظيفة الآخر، أن يساعدنا على فهم ما يقع بالريف المغربي، لذلك سوف نعرض مثالا لكل حالة.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2008، فوجئ سكان إيسلندا بمواطن اسمه هوردور تورفاسن قلِق على المستقبل الاقتصادي لبلاده، فوضع ميكروفونا أمام مقر البرلمان، ودعا الناس إلى التعبير عن آرائهم. وباختصار، ما جاء الرجل إلى الاحتجاج معارضته توجهات رئيس الحكومة بالرضوخ لبريطانيا وهولندا التي تدعو إلى تكفل الدولة الإيسلندية بدفع ديون أكبر البنوك الثلاثة في البلاد، التي أفلست لصالح الدولتين الدائنتين، وإمعانا في فساده، حاول رئيس الحكومة، بكل الطرق، التأثير على الرأي العام بإقناعه بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في مقابل الحصول على تسهيلات في أداء خمسة مليارات من جيوب دافعي الضرائب، عوضا عن خسائر تكبدتها بنوك تنتمي إلى القطاع الخاص.
نجح تورفاسن في إقناع ثلث ساكنة البلاد بالانضمام إلى الحركة الاحتجاجية (مائة ألف محتج) ما فتئوا يقرعون الأواني الفارغة، إلى أن أعلن في 23 يناير/ كانون الأول 2009 عن تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، ويوم 26 يناير، قدمت الحكومة استقالتها الجماعية، ثم نظمت الانتخابات في 25 أبريل/ نيسان، التي أسفرت عن تشكيل حكومة ائتلافية من اليسار الديمقراطي ويسار الخضر مع حركة المواطنين التي تأسست إبان الاحتجاجات. لكن، وعلى الرغم من التناوب السياسي، فإن المشكلات لم تهدأ.
في 6 مارس/ آذار من 2010، استدعي الإيسلنديون إلى استفتاء حول إمكانية أداء الدولة ديون البنوك المفلسة، فكانت النتيجة أن رفض 93% هذا الاقتراح، ومع تزايد الحيل والإشاعات والإغراءات من الدول الدائنة والاتحاد الأوروبي، ودرءا لكل تضليل للرأي العام المحلي، صادق البرلمان الإيسلندي على قانون الصحافة الأكثر ديمقراطية في العالم، والمسمّى "مبادرة وسائل الإعلام الحديثة الأيسلندية"، وقد تم التصويت عليه بإجماع الخمسين عضوا، ولا معارض واحد.
على الصعيد الشعبي، استمرت النقاشات والمنتديات التي ينظمها المجتمع المدني عن قضايا الإصلاح والتغيير السياسي والاقتصادي، إلى أن تم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 انتخاب مجلس تأسيسي من 25 شخصاً مستقل سياسيا من بين 522 قدموا ترشيحاتهم للمجلس، وقبل أن ينظم الاستفتاء الثاني حول موضوع ديون البنوك، في 9 أبريل 2011، والذي انتهى بالنتيجة نفسها، كانت السلطات البريطانية والإيسلندية قد شرعت في القبض على الثلاثين متورطيا في إفلاس البنوك الثلاثة، بينهم رجال أعمال نافذون وسياسيون وموظفون في البنوك، بالإضافة إلى رئيس الحكومة السابق.
الحراك البرتقالي يخبرنا أن الدولة الإيسلندية تنظر إلى نفسها انطلاقا من عين المواطن، لذلك فهي لم تتخذ قط أي إجراء يحد من سيادته، بل كانت تعود لاستفتائه حول كل شيء يتعلق بتلك السيادة، وأكدت أنّ الجميع سواسية أمام القانون، إلى درجة لا يمكن أن تكون معها كرامة المواطن رهينة بسماحة الزعيم السياسي أو ذكائه أو أصوله البيولوجية.. بل العكس، على هذا الزعيم أن يُؤقلم كل تصرفاته ومسؤولياته مع الظروف التي تحفظ فيها كرامة المواطن. ويبقى أهم درس تركه لنا تورفاسون وأصدقاؤه أن الدولة هي نحن وليس شيئا آخر، وأن الدولة جهاز حرية وليست جهاز قمع، لذلك عليها أن تحمينا وتحمي اختياراتنا وسلامة المعلومات الواردة إلينا ولو من الإشاعات (السرعة في تنزيل قانون الصحافة الجديد).
كانت الدولة الإيسلندية راغبة في الإصلاح، أما العناصر التي مكنتها منه فهي دستورها غير الممنوح، ونخبها الواعية، مع وعي شعبي كبير (92% من السكان مرتبطون بالأنترنت) ومساواة الجميع أمام القانون. في حين لم تستطع دولنا العربية الاستجابة لأبسط المطالب الشعبية، بل على العكس أبان حكامها الجدد أن المواطنة والتنمية والرخاء هبة من عند الحاكم، يؤتها من يشاء وينزعها ممن يشاء.
A49D13BF-46C8-47D1-BFB0-75C4A8908F5B
A49D13BF-46C8-47D1-BFB0-75C4A8908F5B
توفيق سلمون (المغرب)
توفيق سلمون (المغرب)