في الجزائر، كما هي الحال في بلدان عربية أخرى، يشعر متقاعدون كثر بالوحدة وعدم الفاعلية وقد وجدوا أنفسهم على الهامش. بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ الأيام المتبقية لهم أشبه بحياة مع وقف التنفيذ.
في قاعة الجلوس، عند مدخل المنزل الواسع، حيث وُضع سرير قبالة جهاز تلفزيون، يجلس عمّي العياشي. إنّها الساعة السابعة والنصف مساءً، وكعادته ينتظر الرجل السبعيني موعد بدء نشرة أخبار الثامنة مساءً على القناة الجزائرية الرسمية. وحدها الأخبار تجعله في تواصل دائم مع الحياة وتقلباتها، ويشاهدها وهو يرتشف قهوته المسائية ويدخّن سيجارته من نوع "أفراز" محلية الصنع. ذلك يزعج من حوله، أبناء وأحفاد، بعدما استولى على حدّ تعبيرهم على جهاز التحكّم عن بعد، فلا يسمح لهم بتبديل القناة. منذ أكثر من عشرة أعوام وعمّي العياشي عبد القادر على هذه الحال، ويخبر "العربي الجديد" بأنّ "التلفزيون ونشرة الأخبار هما اللذان يجعلانني أعيش الحياة الراهنة". ويبدو التلفزيون مقدساً بالنسبة إليه مثل أدائه الصلوات الخمس في المسجد القريب من بيته في القرية، عند أعالي ولاية البليدة غربيّ العاصمة الجزائرية، فهو الذي يذكّره بمواعيد الأذان وغيرها.
حال عمّي العياشي هي نفسها حال آلاف المتقاعدين، بعدما عرف الحياة جيداً، هو الذي اعتاد الاستيقاظ باكراً عند الفجر و"اللهث وراء اللقمة الحلال"، بحسب ما يقول. يضيف: "اشتغلت حارساً ومزارعاً ومربّي أغنام وغيرها من المهن التي باتت اليوم مجرّد ذكريات جميلة". ويلفت بحزن شديد إلى أنّ "أبنائي يسخرون منّي اليوم لأنّني لم أشترِ سيارة ولم أبنِ بيتاً جميلاً... لكنّني بنيت لهم السمعة الطيبة".
هو "واقع مرير" ما يعيشه آلاف المحالين على التقاعد في الجزائر، بحسب ما تقول الباحثة في علم الاجتماع النفسي من جامعة باتنة، علية بو لعسل، مضيفة أنّ "هؤلاء عملوا لأعوام طويلة قبل أن تجبرهم دورة الحياة على الاختفاء والتواري عن الأنظار. وتؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "نهاية الخدمة بالنسبة إليهم مأساوية، إذ إنّهم بمعظمهم لا يملكون أيّ تصوّر عن حياة ما بعد التقاعد".
من جهته، يقول عبد الباقي بن عبد الرحمان لـ"العربي الجديد" إنّه "بعد رحلة ثلاثين عاماً من الكدّ والاجتهاد والعمل في مؤسسة أو شركة أو مدرسة أو مستشفى، ترغم الظروف الآلاف على التزام البيت وغرفة النوم والفراش والتخفي بشكل أو بآخر. بعضهم يصيرون أشبه بأجساد مستعارة، غرباء عن الصورة التي كانت لهم في السابق". بن عبد الرحمان يبلغ من العمر 65 عاماً، و"الجوّ الوحيد الذي يؤنسني هو المقهى". يخبر أنّه نادراً ما يجالس جيرانه في الحيّ الذي يقطنه منذ الطفولة، "خصوصاً أنّني سئمت فعل اللاشيء"، لافتاً إلى أنّه صار "قليل الكلام وسريع الغضب". وقد ألمّت به أمراض عدّة لعلّ أبرزها تراجع البصر والحساسية في حين يعجز عن الإقلاع عن التدخين. ويؤكد أنّ "السيجارة والقهوة صارتا مهربي الوحيد"، على الرغم من نصائح الأطباء الذين يحذّرونه من أنّها سوف تفتك بجسده النحيل.
"موت بالحياة"
"هربت من السجن فوقعت في بابه". مثل جزائري شعبي، تلجأ إليه حسينة صخري قائلة لـ"العربي الجديد": "ظللت أنتظر التقاعد على مدى عامَين، ظناً منّي أنّني سوف أفوز بالراحة بعد أكثر من 29 عاماً قضيتها في قطاع التعليم". وكأنّما كلامها يختصر حال آلاف من العاملين في قطاع التربية، تؤكد المتقاعدة الستينية أنّ "التعليم يستهلك الصحة، يسحب العمر سحباً. والتعامل مع التلاميذ صار اليوم صعباً، خصوصاً مع التكنولوجيا التي لجأ إليها الجيل الجديد". وتتذّكر صخري "الأشهر والأيام الأخيرة قبل فوزي بالتقاعد. كنت أنتظره بفارغ الصبر، لكنّ النتيجة أتت مخزية. فأنا لا أخرج إلا لشراء بعض مستلزمات البيت أو حضور مناسبات اجتماعية معدودة".
كثيرون همّ مثل صخري يرون الحياة ما بعد التقاعد أشبه بالجلوس في غرفة مظلمة، سبق أن فتحوا بابها هرباً من إرهاق امتدّ لأعوام لكنّهم وقعوا في مشكلة أكبر، ويصفون الحال بأنّها "موت بالحياة" أو مرحلة "مات قاعد" (توفي وهو جالس)، نظراً إلى غياب كل أفق محتمل. آلاف لم يطرحوا السؤال الجوهري: "ماذا بعد التقاعد؟" أو "ماذا تفعل في فترة تقاعدك؟".
الراحة مرض
في الجزائر أكثر من مليونَين و500 ألف متقاعد أوضاعهم صعبة جداً. هم بمعظمهم ينتظرون موعد معاشهم الشهري، وبالنسبة إليهم فإنّ الراحة هي المرض في حدّ ذاته، لا سيّما أنّ كثيرين يموتون بصمت بعدما ركنوا للراحة. هؤلاء بمعظمهم لطالما طمحوا إلى الحصول على التقاعد، غير أنّهم اليوم يصارعون أمراضاً مستعصية.
الاكتئاب هو مرض العصر الذي يشترك فيه المتقاعدون جميعاً بسبب الرتابة واليوميات المكررة. يقول عبد النور نجاري، وهو أستاذ ثانوي متقاعد في أواخر الستينيات من عمره، لـ" العربي الجديد"، إنّ "في نهاية خدمتي في التعليم التي تجاوزت 35 عاماً، وجدت نفسي وقد مللت من المدرسة وإعادة الدروس في كل عام، لكنّني في تقاعدي تحوّلت حالة السأم إلى اكتئاب حاد". هو لا يتحدّث مع أيّ من أفراد أسرته ويشعر بأنّه صار "عالة عليهم"، لافتاً إلى أنّ "أبنائي ينظرون إليّ نظرة احتقار شديدة... أنا صرت بلا فائدة في نظرهم". وبينما يستعيد نجاري شريط الأحداث الماضية، يخبر أنّه "قبل أربعة أعوام فقط كنت متحمّساً لجمع الملف الخاص بالتقاعد وطلب نهاية الخدمة، غير أنّني اليوم أحنّ إلى المدرسة وتلاميذي، خصوصاً أنّني صرت أخاف من وصف: عديم الفائدة".
حلول مقترحة
في سياق متصل، يحاول باحثون ومعنيون بهذا الشأن إيجاد حلول للاستفادة من المتقاعدين في الجزائر وتأطيرهم في فترة ما بعد الخدمة. فيقترح أستاذ علم الاجتماع الأسري، جمال بولحبال، "إعادة الآلاف إلى حضن المجتمع والاستفادة من خبراتهم في شتّى القطاعات"، مشدداً لـ"العربي الجديد" على أنّ "العامل في مختلف المجالات هو مثل الشجرة المثمرة التي لا تتوقف عن العطاء كلّما وجدت بيئة مشجّعة على ذلك." يضيف بولحبال أنّ "في إمكان السلطات الجزائرية استغلال خبرات المتقاعدين في الجامعات من خلال نقل تجاربهم للأجيال اللاحقة"، مؤكداً أنّ "التقاعد يجب أن يكون بداية لمرحلة جديدة أكثر نماء".
من جهتها، ترى المتخصصة في الأمراض الداخلية، نورية عبو، أنّ "عدداً كبيراً من مرضاها من كبار السنّ ومن فئة المتقاعدين تحديداً، وقد ظهرت لديهم أمراض بعد نهاية الخدمة مباشرة". تضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "النمو يتحقق في الضيق"، لافتة إلى أنّها شجّعت كثيرين على "الاشتغال في أمور جديدة وامتهان حرف تنسيهم أعوام العمل السابق". وتؤكد أنّ "رؤية الأمور بشيء من الإيجابية تحتاج إلى تجريب أشياء جديدة تختلف عمّا كان سابقاً. فالراحة ليست الجلوس بين أربعة جدران".
وقضيّة المتقاعدين في الجزائر أمر لا يسلّط الضوء عليه، في حين تقدّم السلطات الجزائرية مساعدات لهذه الفئة تنحصر بالمساعدات المادية، وهذا أمر يُعَدّ بحسب خبراء إجحافاً في حقّ هؤلاء، إذ إنّهم "ثروة يمكن استثمارها في قطاعات كثيرة". ويقترحون إيجاد فسحة لتحقيق طموحات جديدة، لا سيّما أنّ "الطبيعة لا تقبل الفراغ".
وبهدف الاستفادة من المتقاعدين وتخفيف آلامهم، ثمّة مقترحات يقدّمها متخصصون في الصحة النفسية يمكن العمل عليها في المستقبل، لعلّ أبرزها تأهيل الموظفين لمرحلة ما بعد التقاعد ووضع مخططات في فترة تتراوح ما بين عامَين وخمسة أعوام من سنّ التقاعد، بالإضافة إلى تفعيل دور المتقاعد في محيطه ومجتمعه وتفعيل دور الطب الجسدي والنفسي لمتابعة المتقاعدين وعلاجهم. كذلك يقترح آخرون إنشاء مراكز لخدمة المتقاعدين وخلق مشروعات تطوعية لفائدتهم وإنشاء مساحات للرياضة خاصة بهم.
ومن الممكن في هذا الإطار تفعيل شراكات وتعاون بين الجامعات الجزائرية والمنظمات والجمعيات للاستثمار في التعاقد مع متقاعدين من شتى التخصصات للاستفادة من خبراتهم وتدريب الطلاب والكوادر ونقل تجاربهم الميدانية إلى جيل المستقبل (بحسب ما أشار بولحبال آنفاً)، لأنّ التعلم في قاعات الجامعات يختلف عن العمل في الميدان. ويشبّه الخبراء جيل المستقبل بأنّهم البذرة والمتقاعدين بأنّهم أرض خصبة.