عادةً ما يعيش المترجِم في ظلّ الكاتب، وقليلاً ما تُفرد له مساحاتٌ ليَظهر للقارئ ويعرض وجهات نظره، ويشرح طريقة وأسلوب عمله. من هنا جاء كتاب الباحثة الإسبانية، أنخلينا غوتييريث ألمينارا، "مترجمو العربية يتحدّثون"، في محاولة لتسليط الضوء على المترجم وإسماع صوته، من خلال مجموعة من مترجمي الأدب العربي إلى الإسبانية.
العمل، الذي صدر مؤخّراً عن "مدرسة المترجمين" في طليطلة بعنوان فرعي هو "منشورات الشرق والمتوسّط مثالاً (1994 - 2016)"، يحاول، وفق صاحبته، تحليل الدور الذي لعبته "منشورات الشرق والمتوسّط" في نشر الأدب العربي بالإسبانية، والتعريف بتجارب المترجمين الذين اشتغلوا مع الدار على مدار أكثر من عشرين عاماً.
رتبت ألمينارا الكتاب في قسمين: في الأوّل، حلّلت دليل منشورات الدار وحدّدت أعداد الأعمال التي أصدرتها والمجموعات والترجمات واللغات المترجَم عنها، بهدف مقارنة الأدب العربي المنشور بالإسبانية بالأدب المنشور بلغات أخرى، ودراستها انطلاقاً من العناوين المختارة وكتّابها. وفي الثاني، جمعت 13 مقابلة أجرتها مع مترجمين وناشرين حول عمل دار النشر والترجمة داخلها.
ونظراً للمسافة الجغرافية التي تفصل بين صاحبة الكتاب والمترجمين، أُجرت سبع مقابلات عن طريق السكايب، واثنتين عن طريق الهاتف، وأربعةً عن طريق البريد الإلكتروني.
اللافت أن المؤلّفة لم تطرح الأسئلة نفسها على كلّ المترجمين كما هو متعارف عليه في مثل هذا النوع من الدراسات، بل كانت أسئلتها مختلفة مع كل مترجم بحسب تجربته. غير أن محوراً عاماً كان مشتركاً بين جميع الحوارات، ويتضمّن المسار الشخصي والمهني للمترجمين، وتقييم علاقتهم مع "منشورات الشرق والمتوسّط" والترجمة المنجزة لصالحها. أُضيفت إلى هذه الأسئلة الرئيسية أخرى تتعلّق بتقنيات وطرق الترجمة المعتمدة من قبل كل مترجم، أو التي تنصّ عليها الدار.
كما طرحت الكاتبة أسئلة بخصوص البرنامج الأوروبي "سلسلة ذاكرة المتوسّط"، بالنظر إلى العلاقة المتينة التي تجمعه بدار النشر سالفة الذكر، إذ سبق لها إصدار 14 كتاباً من بين 18 عنواناً تُرجمت إلى الإسبانية ضمن هذه السلسلة.
المترجمون الذين أجرت معهم الكاتبة حواراتٍ؛ هم: مانويل فيريا غارثيا، وغونثالو فيرنانديث بارِّيا، وماريا لوث كوميندادور، ولويس ميغيل كنيادا، وملاغروس نوين مونريال، وإغناثيو غوتييريث دي تيران، وسالبادور بنْيا مارتين، ومليكة امبارك لوبيث، ونييبيس باراديلا ألونصو، وفيديريكو أربوس أيوسو. أمّا الناشرون؛ فهم: فيرناندو غارثيا بوريو، وإنماكولادا خيمينيث موريي مؤسّسا "منشورات الشرق والمتوسّط"، والشاعرة كلارا خانيس مديرة مجموعة "شعر" التي تصدرها الدار نفسها.
في مقابلة المستعرب والمشرف على سلسلة "ذاكرة المتوسّط" في إسبانيا، غونثالو فيرنانديث بارِّيا، يشير الأخير إلى أن أغلب المترجمين الإسبان الذين اشتغلوا لصالح "منشورات الشرق والمتوسط" لم تكن لديهم تجربة في ميدان الترجمة الأدبية، وأن الدار لم تكن لديها مشكلة في التعامل مع مترجمين شباب، ما مكّن من ظهور جيل كامل من مترجمي العربية.
وعن سياسة دار النشر، تحدّث كلّ من إغناثيو غوتييريث دي تيران، وماريا لوث كوميندادور، ونييبيس باراديلا ألونصو عن القواعد التي فرضتها الدار، ومنها عدم وضع شروحات في هوامش الصفحات، أو في نهاية الكتاب.
أمّا لويس ميغيل كنيادا، مدير "مدرسة المترجمين" في طليطلة، فشدّد على أهمية التواصل مع كاتب النص في عملية الترجمة، وهذا ما أتيح لمعظم المترجمين الذين شاركوا في برنامج "ذاكرة المتوسط"، حسب قوله؛ إذ أُعطيت لهم، في أغلب الأحيان، فرصة الاجتماع مع كتّاب الأعمال المترجمة والتناقش معهم مباشرةً حول صعوبات الكتاب والحلول التي قدّموها. ويبدو أن ذلك كان سبباً رئيسياً حذا بكلّ المحاوَرين في الكتاب إلى التأكيد على أن هذه التجربة هي الأهم في مسارهم الترجمي.
بخصوص مليكة امبارك لوبيث التي أنجزت ترجمات لكتب عربية عن الفرنسية بمساعدة مترجمين عرب آخرين، فرغم عدم إتقانها العربية، تتعمّد في ترجماتها إلى الإسبانية استخدام الكلمات الإسبانية ذات الأصول العربية. تقول إن الأمر بالنسبة إليها هو "محاولة لإرجاع تلك الكلمات إلى موطنها والاعتراف بإسهام العرب في الحياة العامة في شبه الجزيرة الإيبيرية".
توصّلت مؤلّفة الكتاب، في الأخير إلى أن أكثر من تسعين بالمئة من منشورات الدار هي أعمال مترجمة، بينما تمثّل الترجمات عن العربية نسبة 25% من مجموع الترجمات، وهنا يبرز الدور الذي لعبته طيلة أكثر من ربع قرن.
تكمن أهمية الدراسة في إسماعها صوت المترجمين المذكورين، ولو أن الشخصيات الثلاث الأخيرة لا تندرج في خانة مترجِمي العربية، وكذلك مليكة امبارك لوبيث لأنها مترجمة عن الفرنسية، وكل الترجمات التي أنجزتها عن العربية كانت بمشاركة مع مترجمين عرب آخرين.
وبالنسبة إلينا نحن العرب، يدفعنا كتاب كهذا إلى التفكّر في راهن الترجمة من العربية إلى لغات العالم، حيث تنعدم الجهود الرسمية العربية في هذا المضمار، ويُترك الأمر بالكامل إلى الثقافات الأخرى لكي تترجمنا كما تشاء. في حين أن هذه الثقافات -خصوصاً الغربية- تلعب دوراً أساسياً في اختيار ما يترجَم منها إلى لغتنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
متوسّط بضفة واحدة
أطلقت "المنظّمة الأوروبية للثقافة" مشروع "ذاكرة المتوسّط" عام 1994، سعياً منها، كما تقول، إلى تشجيع الحوار عبر تنظيم مؤتمرات وترجمة أدب عربي معاصر بتسع لغات أوروبية. من بين معايير اختيار الأعمال لترجمتها أن تكون سيرة ذاتية لكاتبٍ عربي حول مدينة متوسّطية. الملاحظة الأبرز -وبعيداً عن التوظيفات السياسية- أنها تكاد تكون ذاكرة من طرف واحد، أو برعاية طرف واحد، فيما الطرف العربي -الرسمي تحديداً- في موقع "انتظار المبادرات".