ساد الصمت من قبل أولياء الأمور، حينمت سألتهم المدربة البشرية عن السلوكيات والأفعال التي يقومون بها لبناء قيمة التواضع لدى الأبناء، وهنا أخذت المدربة في حكي قصتها الخاصة التي تسميها "مبدأ هيلدا في تعليم التواضع للأبناء".
تبدأ قاتلة: كنت في أواسط العشرينيات من العمر، عندما قررت أن أقوم بدراسة ميدانية في إحدى عشوائيات مصر، وكان البحث عن الوسائل والطرق التربوية المتبعة لدى الطوائف المتواضعة من الناحية الاقتصادية، وهي ما نسميها بطائفة الفقراء. هناك في إحدى تلك العشوائيات شاهدت الموقف التالي: فتاة لم تتجاوز الخامسة من عمرها تخرج من عربة مرسيدس فارهة مع السائق الذي سلمها لسيدة ثلاثينية واقفة عند باب شقة في الدور الأرضي، كان واضحاً من مظهرها وهيئتها أن أوضاعها المادية والاجتماعية متدنية للغاية. ثم انطلق السائق تاركاً الابنة في ذلك البيت. لم يكن الأمر مستغرباً لأهل الحي فقد ألفوا المنظر، أما بالنسبة لي فقد كان أمراً غريباً، ما الذي يأتي ببنت في الخامسة إلى عشش فقيرة مثل هذه، ما الذي تفعله هنا؟ لماذا تركها السائق وكان يأمن البيت والسيدة التي أودع عندها البنية؟
انتهيت من ملء الاستمارات الخاصة بالبحث الذي كنت أقوم به، وقبل أن أغادر سألت عن تلك البنت الصغيرة التي تُركت منذ قليل على باب سيدة معدمة، ضحك الحضور (عينة من البحث
الذي كنت أقوم به) وقالوا: "هذه ابنة هيلدا وتأتي إلى حينا أول يومين من كل شهر لتبيت عند هذه السيدة الفقيرة التي تخدم في بيت هيلدا. وهيلدا هو اسم أم الابنة، وهي أجنبية يقولون من أوروبا، ويقولون أيضا أنها تعيش مع أسرتها في قصر مهيب كتلك التي نراها في الأفلام، يقع في الطرف المقابل من القاهرة ولديهم خدم وسائقون.
يتابعون: تصر الأم التي تأتي بابنتها إلى هنا كل شهر وتتركها في الحي المعدم كي تتعرف إلى حياة الفقراء وتتعلم التواضع واحترام الآخرين، هي سيدة على خلق عال ومتواضعة إلى أبعد حد، حتى إنها يجهز بنفسها حلوى عيد ميلاد الخادمة، وتأتي بها إلى هنا لنأكلها كلنا معاً…" صعقني ما سمعته، درس التواضع وبناء تلك القيمة (التي اعتبرها صعبة المراس) جاء من قصر على أطراف المدينة.
وهنا وقفت المدربة القائمة على دورة تدرييبة بعنوان "وسائل بناء المنظومة القيمية والأخلاقية (الطفولة المبكرة)" أمام الحضور الذي أتي من بقاع المدينة المختلفة ودفع مبلغاً محترماً لينهل من علمها، فهي ذائعة الصيت في مجالها. وقالت: التواضع من الأخلاق التي ننسى أهميتها
وضرورة التركيز عليها أثناء قيامنا بعملية التربية. ولكنني أنا شخصياً تعلمت درساً مهماً وأصبح بالنسبة لي هذا الدرس أو ما أسميه "مبدأ هيلدا" أهم من عشرات النظريات والكتب والمقالات التي كتبت في مجال التربية القيمية بصورة عامة.
وهنا، شعرت المدربة أنها وصلت لمرادها، إذ بدأت في النظر إلى الحضور واحداً واحداً، واستمرت في الكلام بحماسة كبيرة قائلة: "التواضع خلق لا يبنى إلا بالقدوة، كن أنت نموذجا للتواضع حتى يتشربه الأبناء، زُر الفقراء بقناعة داخلية راسخة أنه ليس تفضلاً ولكنه مشاركة صادقة لحياتهم، شاركهم حياتهم، أحزانهم أفراحهم وآمالهم، كُل مما يطبخون ونم معهم على سريرهم، وحولوا هذه الزيارات إلى أوقات ممتعة للضحك والترفيه، دعوهم يلعبون مع دواجنهم وحميرهم، دعوهم يشاهدون حلب اللبن وخبز العيش ومراحل إعداد الجبن، دعوهم يساعدون الفقراء في أمور حياتهم البسيطة، فقط يومها سوف يدركون أننا كلنا نسيج مجتمع واحد يكمل بعضنا بعضاً ولا يستغني أحدهما عن أخيه، وهكذا فقط تتلاشى من قواميسهم كلمات "هم" وتستبدل بـ "نحن جميعا".
ساد الصمت القاعة بعدما شاهد الحاضرون دمعة سريعة فلتت من عين المدربة، قالت بصوت هامس "رحمك الله يا هيلدا.. لو تعرفنا إليك لكنت اليوم هنا تعلميننا بدل أن ننقل عنك".
رحم الله هيلدا.