ما لا يفهمه أوباما عن سورية..
سياسة الولايات المتحدة لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية محكومة بالفشل؛ وفيما يلي كيفية إصلاح تلك السياسة.
من المرجّح أن الاستراتيجية الراهنة التي تستعملها الولايات المتحدة لتدمير تنظيم الدولة الإسلامية محكومة بالفشل. في الواقع، ثمة مخاطرة في أن تفضي إلى العكس تماماً مما تهدف إلى تحقيقه، أي تعزيز جاذبية الجهاديين في سورية والعراق، وفي أماكن أبعد منهما بكثير، في حين تترك الباب مفتوحاً لتنظيم الدولة، لكي يتوسع إلى مناطق جديدة.
ويعود سبب ذلك، في جزء كبير منه، إلى أن الولايات المتحدة تصدّت، حتى الآن، لمشكلة تنظيم الدولة، في معزل عن الأوجه الأخرى للصراع العابر للحدود، في كل من سورية والعراق. ما لم تتبنَّ إدارة باراك أوباما نظرة أوسع، فإنها لن تتمكن من الاستجابة بفعالية للوضع المتدهور على الأرض. الأمر الجيد أنه لا يزال في وسع البيت الأبيض تغيير هذه السياسة. وبالفعل، فقد ذُكِر أن الرئيس باراك أوباما طلب إجراء مراجعة لاستراتيجية إدارته في سورية. في سياق صياغة مسعى البيت الأبيض لشق طريق جديد إلى الأمام، فإنه ينبغي أن يفهم ثلاثة أمور حول تنظيم الدولة والمشهد العسكري الذي يعمل في إطاره.
1. التمدد جوهري لمستقبل تنظيم الدولة الإسلامية، وأفضل احتمالاته في سورية.
إن قدرة هذه المجموعة الجهادية على إظهار تمتّعها بزخم كبير أمر جوهري، يُمَكّنها من تعبئة وحشد مقاتلين وأنصار جدد. في مناخ من الاستقطاب الطائفي، ووسط تنامي الغضب السنّي حيال استعمال الحكومتين السورية والعراقية والميليشيات الحليفة لهما للعنف الذي لا يميز بين المدنيين والمقاتلين، فإن نقطة القوة الرئيسية لتنظيم الدولة تمثّلت، حتى الآن، في قدرته على تحقيق سلسلة من الانتصارات اللافتة. إن سيطرته على مزيد من المناطق، تظهر قوته بصورة تتناقض، بشكل صارخ، مع خصومه من السنّة، مثل الشخصيات السياسية السنية في بغداد، التي تبدو لا حول لها ولا قوة، وفصائل المعارضة السورية المسلّحة غير الجهادية. كما أن الزخم الذي يظهره في ميدان المعركة يمنح تنظيم الدولة علامة مميزة، تخفي، في المحصلة، مُنتجَه المألوف وغير الجذّاب المتمثل في الحكم الأحادي الاستبدادي، الذي يفرضه بقوة وحشية، ومن خلال العمل الاستخباراتي السرّي.
في آخر تسجيل صوتي لـ "خليفة" الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، قال، "اطمئنوا ايها المسلمون، فإن دولتكم بخير، وفي أحسن حال. لن يتوقف زحفها، وستظل تمتد، بإذن الله" على الرغم من أن المواد الدعائية التي يصدرها تنظيم الدولة تشير إلى غير ذلك، فإنه، في الواقع، أعطى الأولوية لتوسّعه، وتعزيز قوته في المناطق، ذات الأغلبية العربية السنّية. إذا نظر المرء إلى محاولات التنظيم الاستيلاء على الأرض والموارد من القوات الحكومية والكردية، لوجد أنه يفعل ذلك في الأطراف، أو في مناطق معزولة، مثل مدينة كوباني، الواقعة شمال سورية، وهي مناطق ضعيفة بشكل خاص.
ثمة حوافز كثيرة، تدفع تنظيم الدولة لقطف مثل تلك الثمار الدانية، لكن مكاسبه ستكون أكبر، إذا استولى على مناطق، يقطنها العرب السنّة. إن كلّ تقدّم يحققه في هذه المناطق لا يسهم في تعزيز الزخم الذي يُعتقَد أن التنظيم يتمتع به، وحسب، بل إنه يتحقق، أيضاً، على حساب المنافسين السنّة المحليين. وهذا أمر محوري، لأن للقوات المحلية سجلاً حافلاً بصدّ هجمات التنظيم في المناطق العربية السنية في العراق وسورية. لقد تمكّنت القبائل السنّية المحلّية، والمجموعات المسلّحة، من طرد التنظيم الذي كان يُعرف، حينذاك بدولة العراق الإسلامية، بمساعدة أميركية في عامي 2007 و2008، وأخرجته مجموعات المعارضة المسلّحة من مدينة حلب، ومن معظم المناطق في شمال غرب سورية، في مطلع عام 2014.
إذا تمكّن تنظيم الدولة من تهميش مثل هؤلاء المنافسين، وفرض احتكاره المقاومة السنّية للقوات الحكومية والميليشيات المتحالفة معها، والمكروهة من السكان المحليين، فإنه يضمن بقاءه في المستقبل المنظور. وقد تمكّن من تحقيق ذلك فعلياً في العراق، ويأمل بتحقيقه في سورية.
بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية، فإن أكثر أهداف توسّعه في سورية والعراق أهمية ريف حلب الشمالي في سورية. تسيطر مجموعات المعارضة المسلّحة غير الجهادية على هذه المنطقة، لكنها تنتشر على منطقة واسعةٍ، وبأعداد قليلة، حيث تسعى إلى صد هجمات تنظيم الدولة، قرب مدينة مارع. وفي الوقت نفسه، تقاتل لمنع النظام من تطويق قواتها داخل مدينة حلب الواقعة على بعد 15 ميلاً إلى الجنوب. إذا صعّد الجهاديون من هجماتهم على مارع في المستقبل القريب، فإن المجموعات المسلّحة غير الجهادية التي تصارع لإبطاء تقدّم قوات النظام في حلب قد لا تتمكن من منع تنظيم الدولة من تحقيق مكاسب مهمة.
ما هو على المحكّ في ريف حلب الشمالي هو المناطق الحدودية الاستراتيجية التي تسيطر عليها المعارضة. إذا استولى تنظيم الدولة على هذه المناطق، فذلك سيمنحه السيطرة على خط إمداد مهم من تركيا، والحصول على موطئ قدم، يتوسّع منه باتجاه الغرب. بالنسبة لقوات المعارضة غير الجهادية، سيكون هذا المزيج من الخسائر البشرية، واللوجستية والنفسية مدمّراً.
في هذا السياق، فإن المقاربة الأميركية الحالية التي تعطي الأولوية للميدان العراقي من المعركة، وتؤجّل القرارات الصعبة فيما يتعلق بسورية، تتناقض مع الديناميكيات العاملة على الأرض.
2. أزمتا "الدولة الإسلامية" والنظام مرتبطتان.
يقرّ المسؤولون الأميركيون، علناً، بأن سلوك النظام السوري، وطبيعته بحد ذاتها، يشكلان عاملاً رئيسياً في تغذية صعود الجهاديين، وأن العدد الذي تقتله قوات الرئيس السوري، بشار الأسد، من المدنيين (وأفراد مجموعات المعارضة المسلحة) أكبر بكثير مما يقتله تنظيم الدولة. كما أنهم يعترفون بأن دور مجموعات المعارضة المسلحة، غير الجهادية، سيكون محورياً في تقليص المكاسب التي يحققها الجهاديون. إلاّ أنه، من الناحية العملية، السياسة الأميركية تجعل دمشق أكثر جرأة، وتُضعِف مجموعات المعارضة المسلحة التي صُمِّمت هذه السياسة، أصلاً، لدعمها.
مكّنت الضربات الجوية التي يشنها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة النظام من إعادة نشر قواته لمواجهة قوات المعارضة المسلّحة غير الجهادية، التي يبقى إلحاق الهزيمة بها الأولوية القصوى للنظام. منذ بداية الضربات الجويّة الموجّهة لتنظيم الدولة، حققت قوات النظام مكاسب على الأرض ضد قوات المعارضة المسلحة غير الجهادية، على جبهات رئيسية في محافظة حماه ومدينة حلب. وفي حالة حلب، جاءت مكاسبها على حساب فصائل المعارضة المسلحة التي تواجه تنظيم الدولة في ريف حلب الشمالي.
لقد أدّت الغارات الجوية الأميركية إلى محوٍ جزئي للخطوط الفاصلة بين الاستراتيجية العسكرية الأميركية والاستراتيجية العسكرية للنظام. بدلاً من حصر التركيز على ضرب أهداف تنظيم الدولة في شرق سورية، فإن الولايات المتحدة قصفت، غرب حلب، جبهة النصرة، التابعة لتنظيم القاعدة، والتي أكسبها دورها في محاربة النظام وتنظيم الدولة مصداقية لدى قواعد المعارضة. ويبدو أن الولايات المتحدة قصفت، في إحدى المرات، "أحرار الشام"، وهي مجموعة سلفية، غيّرت برنامجها السياسي، في الشهور الأخيرة، ليصبح أكثر اعتدالاً، ويُنظَر إليها، على نطاق واسع، على أنها مكوّن سوري أساسي (على الرغم من أنه متشدد) في المعارضة المسلّحة. إن ادعاءات واشنطن بأن هذه الضربات استهدفت أعضاء خلية سرية باسم "خراسان"، تخطط لمهاجمة الولايات المتحدة أو أوروبا، غير مقنعة في نظر فصائل المعارضة المسلّحة، بشكل أساسي، لأن واشنطن لم تكن قد ذكرت تنظيم "خراسان"، حتى الأسبوع الذي سبق أول جولة من الضربات الجوية.
تعزز مثل هذه الضربات مزاعم الجهاديين بأن الحملة الأميركية تهدف إلى تعزيز قوة الأسد، وإضعاف طيف واسع من القوى الإسلامية، وبالتالي، هي تشكّل ضربة كبيرة لمصداقية فصائل المعارضة، المستعدة لبناء شراكة مع الولايات المتحدة. بالنسبة لقائد فصيل معارض، يسعى إلى إقناع مقاتليه بأن التعاون مع واشنطن في مصلحة الثورة، فإن الضربات الأميركية التي تتجاهل نظام الأسد، في حين تقصف "أحرار الشام" يصعب تفسيرها. حتى على فرَض أن "خراسان" يشكّل تهديداً، يبرر القيام بعمل عاجل ضده، فإن على واشنطن أن تكون أكثر حذراً في سعيها إلى الموازنة بين الخسائر التي تلحق بالجهاديين، جراء الضربات التي توجهها لهم في مقابل الفوائد التي يجنيها هؤلاء، من خلال تنامي الاستياء من مقاربة الولايات المتحدة في أوساط المعارضة المسلّحة.
كما أن واشنطن تواجه مشكلة عملياتية ملموسة، تتمثل فيما يلي:
كيف يمكنها أن تأمل بتمكين فصائل المعارضة المعتدلة في شمال سورية، إذا استمر النظام بدفعها نحو حافة الهزيمة؟ سيثبت أن الجزء المخصَّص لتعزيز قوة هذه الفصائل في سياسة البيت الأبيض، والمتمثل في برنامج بقيمة 500 مليون دولار، لتدريب وتسليح 5000 مقاتل، على مدى عام، ضئيل جداً ومتأخر جداً، بحيث لن يمكّنها من المحافظة على المناطق التي تسيطر عليها ضد التصعيد المتوقّع من تنظيم الدولة، والجهود المستمرة التي تبذلها جبهة النصرة، لتوسيع سيطرتها داخل مناطق المعارضة المسلحة، إضافة إلى هجمات النظام المستمرة.
3. ليكون "تجميد القتال" مفيداً، ينبغي أن يختلف جذرياً عن حالة "وقف إطلاق النار".
يسعى المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، إلى تحقيق "تجميد للقتال" في المعركة المحورية بين النظام وقوات المعارضة في حلب. وتهدف هذه الجهود إلى درء الكارثة الإنسانية في تلك المدينة، والسماح لجميع الفصائل بتعبئة مواردها لمقاتلة تنظيم الدولة.
إن استعمال دي ميستورا عبارة "تجميد القتال"، بدلاً من "وقف إطلاق النار" أمر مهم. لقد فقدت عمليات وقف إطلاق النار مصداقيتها في سورية، حيث استغلّها النظام كجزء محوري في استراتيجيته، في التوصّل إلى مثل تلك الاتفاقيات مع فصائل المعارضة، لتعزيز انتصار عسكري، أو لسحب قواته من منطقةٍ، لتوجيهها إلى جبهة أخرى. لقد ضمن تفوّق النظام في قوة النيران أن تكون الشروط في مثل تلك الاتفاقيات لصالحه؛ وقد لجأ إلى انتهاكات صارخةٍ للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك، استخدام الحصار والقصف الذي لا يميّز بين المدنيين والمقاتلين، لتحيق أهدافه. وهكذا، فإن حالات وقف إطلاق النار لم تؤدِّ إلى تقليص إجمالي في مستويات العنف في البلاد، أو إلى الاستجابة للمظالم المشروعة التي نجحت المجموعات الجهادية في استغلالها.
يمكن لتجميد القتال في حلب أن ينقذ حياة كثيرين، وأن يساعد الجهود المبذولة لمحاربة تنظيم الدولة. لكن، فقط إذا حافظ على القدرات القتالية لفصائل المعارضة المسلّحة، غير الجهادية. أما إذا أدّى إلى تثبيت انتصار النظام هناك، أو إذا مكّن دمشق من إعادة نشر قواتها ضد فصائل المعارضة، في أماكن أخرى، فإنه سيكون لمصلحة تنظيم الدولة. إذا تمكّن النظام من تحقيق مكاسب على الأرض، على حساب مجموعات المعارضة المسلحة، باستعمال القوة أو من خلال الهدنة، فذلك يؤدي إلى إزاحة المنافسين السنة من طريق الجهاديين.
إلا أن وضع النظام في محيط حلب قوي، بالنظر إلى تقدم أحرزه، في محاولته قطع آخر خط إمداد للمعارضة المسلّحة في المدينة. وبالتالي، فإنه ليس لديه أي دافع، حالياً، للتوصّل إلى اتفاق يحافظ على القدرات القتالية لفصائل المعارضة المسلّحة. تفضّل دمشق توجيه ضربة حاسمة للمعارضة المسلّحة في حلب، وهو ما سيشلُّ قدرة الشركاء المحتملين للغرب، وسيترك النظام بوصفه الحصن المفترض ضد الجهاديين. تدرك فصائل المعارضة ذلك، وبالنظر إلى تجربتها السلبية مع حالات وقف إطلاق النار في أمكنة أخرى، فإن حتى الذين يفضّلون تجميد القتال من غير المرجح أن يستثمروا أي رأسمال سياسي، في إقناع المتشككين ضمن صفوفهم، ما لم يروا اسباباً جديدة، تجعلهم يأملون باتفاق منصف.
وهكذا، فإن جوهر المأزق الأميركي في سورية واضح؛ وهو يتمثل في أن إضعاف الجماعات الجهادية يتطلّب تمكين البدائل السنّية المعتدلة، إلا أن تحقيق ذلك قد يكون مستحيلاً، ما لم يكن بالإمكان إقناع دمشق (أو داعميها في طهران) بتغيير استراتيجيتها، أو إجبارها على إجراء هذا التغيير. حتى الآن، يتعامل النظام مع المعارضة التي يدعمها الغرب ودول الخليج وتركيا بوصفها التهديد الأساسي لسيطرته في سورية، ويتعامل مع تنظيم الدولة بوصفه تهديداً ثانوياً، تساعد الولايات المتحدة في التصدي له.
لم تفعل إيران شيئاً يوحي بأنها تعترض على استراتيجية النظام، بل إنها تساعده على تحقيق تلك الاستراتيجية.
يبدو أن دمشق وطهران تعتقدان أن انتصار النظام يتمثل، ببساطة، في المحافظة على المسار الراهن للصراع، إلا أن هذه الرؤية قصيرة النظر، وستكون نتائجها تمكين الجهاديين من تجنيد أعداد غير مسبوقة من المقاتلين. إذا أرادت واشنطن منع ذلك، وبالتالي، وقف دورة العنف المستمر التي سيؤدي استمرار هذا الوضع إلى ترسيخها، فعلى الولايات المتحدة أن تحقق التوازن بين استراتيجيتها في العراق وسورية، وأن تعيد النظر في تكتيكات تتّبعها في توجيه ضرباتها الجوية، وإيجاد السبل الكفيلة بتغيير حسابات دمشق وطهران.
*هذا المقال خصت به مجموعة الأزمات الدولية "العربي الجديد"، وكاتبه كبير المحللين للشؤون السورية فيها.
النص الأصلي نشر بالإنجليزية في فورين بوليسي