ما قبل وبعد

20 نوفمبر 2015
+ الخط -
"ما قبل ليس كما بعد"، كم مرة سنسمع هذه الجملة، ونعيش تداعياتها، في المدى المنظور؟ لكن، الأكيد أنها لن تتوقف عند اعتداءات باريس، وستظل تتردد أمامنا. فخلال السنوات العشرين الماضية فقط، كانت هناك محطات عديدة "لما قبل وما بعد"، بدءاً من "11 سبتمبر"، مروراً باعتداءات مدريد ولندن، وما بينهما من اجتياحات لأفغانستان والعراق، وصولاً اليوم إلى ما شهدته العاصمة الفرنسية قبل أيام.
لكن اللافت دائماً أن انعكاسات ما قبل وما بعد غالباً ما تكون على الأراضي العربية، أو تطاول المواطنين العرب في الغرب. هذا ما حدث بعد اعتداءات نيويورك. والكلام هنا ليس عن اجتياح أفغانستان وإسقاط حكم "طالبان"، بل عن ممارسات أخرى، استغلت هذه الاعتداءات لتغير وجه المنطقة، لأجل غير مسمى.
وإذا كان اجتياح أفغانستان نوعاً ما مبرراً، باعتبار أن البلاد ونظامها كانا حاضنين تنظيم "القاعدة" وزعيمه أسامة بن لادن، إلا أن ما تلا ذلك كان ركوباً لموجة محاربة الإرهاب لأهداف أخرى. الأمر لا يقف عند حدود العراق، والذي ساهم إسقاط نظامه في تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، وتعديل موازين القوى فيها، بل حتى في الأراضي الفلسطينية، حين استغل أرييل شارون "حملة جورج بوش" ليشن حربه على السلطة الفلسطينية، وزعيمها ياسر عرفات، والتي انتهت إلى اغتيال أبو عمار، وهو ما أدخل الوضع الفلسطيني في دوامة لا يزال غير قادر على الخروج منها إلى اليوم.
على المنوال نفسه، يمكن نسج أفعال كثيرة لاحقة، في المنطقة العربية عموماً وفي فلسطين تحديداً، وخصوصاً أن الأراضي الفلسطينية تشهد شبه هبّة، أو انتفاضة مصغرة ضد السياسات الإسرائيلية. انتفاضة لا تزال قوات الاحتلال، ومعها رجال السلطة الفلسطينية عاجزين عن التعامل معها. وربما يجد بنيامين نتنياهو، كما وجد شارون قبله، في الحرب الجديدة على الإرهاب، فرصة لمضاعفة البطش والقتل، وهو الذي كان قد أخذ الضوء الأخضر لذلك من الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في لقائهما أخيراً.
"الحرب على الإرهاب" مصطلح عام قابل للتأويل بكل الأشكال والألوان، خصوصاً أنه منذ عام 2001، تاريخ اعتداءات سبتمبر، لم تفلح الأمم المتحدة، ومعها دول العالم، في الاتفاق على تعريف موحّد لـ "الإرهاب"، فبقي خاضعاً للتفسيرات الفردية والجماعية التي تتماشى مع المصالح الآنية للدول والتيارات. على هذا الأساس، قد تأخذ موجة مكافحة الإرهاب أشكالاً متعددة الآن، وتجرف في طريقها أفراداً وجماعاتٍ، من غير المفترض أن تكون مشمولة في هذه الحرب.
يمكن النظر إلى اللاجئين السوريين مثالاً في هذا المجال، فبعدما بدلت دول في الاتحاد الأوروبي طريقة التعاطي معهم، ووافقت على استقبالهم، جاءت اعتداءات باريس، لتدفع بعض هذه الدول إلى إعادة النظر، على الأقل، بالأعداد التي كان من المفترض أن تستقبلها. وحتى بعد هذا الاستقبال، لن تكون حياة هؤلاء هانئة في ظل ما أحدثته هذه الاعتداءات من صعود لليمين العنصري المتطرف، سياسياً واجتماعياً، وهو ما سيدفع ثمنه لاحقاً اللاجئون العرب والأجانب في البلاد الأوروبية.
أيضاً، يمكن النظر إلى الوضع السوري في المنظار نفسه، فنظام بشار الأسد وحلفاؤه سعوا، من اليوم الأول، إلى استثمار الاعتداءات، وترويج أن حربهم على الشعب هي في إطار مكافحة الإرهاب. ترويج لم يلق، إلى الآن، آذاناً صاغية، لكنه حتماً دفع كثيرين إلى غض الطرف عن المجازر التي ترتكب في الأراضي السورية، وحثهم على البحث عن حلول الحد الأدنى، التي تبقي إرهاب النظام ماثلاً.
أمثلة كثيرة يمكن سوقها أيضاً في مصر وليبيا وغيرها، فتحت مسمى "محاربة الإرهاب"، تسود حالات تصفية الحسابات، والتي تشكل عملياً الغذاء المثالي لتنامي الإرهاب.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".