ما قبل التغريب

07 يناير 2018
+ الخط -
أظل في ذاك الجسد، الذي كانت رائحة رطب الصدأ تنبعث منه قبل وصول أنفي إلى غشاء الحياة الواقع فيه بين وردتين، الغشاء الذي التصقت به آثار معركة قديمة (منتهية) قامت على ترابٍ بين مملكتين، أظلَّ فيه رغبة بعد ليسلّمهُ إلى جحيمٍ غير جحيمي؟

* * * *

أأنطقَ الدهرُ/الطفلُ دميتي؟

* * * *

هل داهمت عزيمةٌ ما زهريّتي الخزفية، التي كافحت لأعطيها حظوتي، وركنتها بجانب الأهازيج، وأواني الانتصارات، أأنتأت العزيمة من حوافها أطرافاً لتأخذ، وثقوب مسام لكي تحس، باصطناعية الزهور المرزمة في داخل عنقها؟..
هل سرقتها مني عزيمة؟
الآن، أصبح في إمكانكِ، يا زهريتي، أن تريدي وألا تريدي؟

* * * *

(كيف لي أن أقفَ أمام عزائي دون أن أسخر منه، أو أهادنهُ ليتروى في بكائهِ، ويتعقل؟).
كيف أخبره أن كلمة العِفّة، مذ نهضَت من عدمها فانوجدت، لم تكن إلا مرادفةً للعهرِ ذاته، بل وتجلٍّ عريض لمعناه الواقعي والأول؟

* * * *

الإباء؟ رحمٌ يلدُ قذارة.

* * * *

بأي كفٍّ أربّت على كَتِفِ عزائي الأحمق: بالذي انزلقَ يوماً نحو الضرع المكتنز من غير أن تشعري-تبالي، أم بالآخر الذي ارتكز عليه (الظهرُ) حينما أخذ يتهاوى بفعلِ القبلات؟

* * * *

كأني أرى أصابعي في أحلامك الصفراوية تعصرُ بثور وجهي وتفقُّ القيح منها وتُلقّمني أصابعُكِ إياه: هكذا تكاملنا في مشهدٍ أثار إعياء الجمهور، فتقيّأ علينا، أو كذلك تناشدين صواري آلهة الثأر ليمخروا عباب المدى، ويجيئوني ليخطفوا لكِ من ملاحمي جزءَ انتصارٍ تتلقفه الأفواه الفاغرة في جوفك، الأفواهُ الهارجةُ بالهزيمة، راذّة الزبد.

* * * *

وقيء الحشد يزيد.

* * * *

هل في داخل ذاك الجسدُ بعدُ طاقة للارتجاج؟
هل وهبَ نفسه لقيدِ الحياة من بعدما أفكَّ قيدي؟
هل ستنسلُّ إلى مسامعي، قريباً، أصواتُ اقتحامٍ مهول أو صليلُ معادنٍ، أو خبط أقدام عنيف يصدُرها زحف جحافلِ جيشٍ يغزو، أو سهمٍ يراوغ، أو أَسَلَةٍ تُفتّت؟

* * * *

أتذكرين لحظةً عانقَ (خيالك) فيها روايةً حبيسة (خيالي)، أطلقتُ سراحها في نداءٍ وجملتين: "يا ملاذيَ الأول.. ادعي أشرسَ المغاوير الذين تعرفين لكي أبارز، وادعي ألا تذوي حرْباتهم حينما يُشهروها في وجه الزعيم.. زعيم المِغار".

* * * *

الآن، يسألُ البطلُ حُبَّه: لِمَ أمثلُ، يا حُب، قبالة ضميري نادماً لأني لم أشلع الستار وأبيّن لهم أن ما اختبئ خلفه إلى اللحظة لم يكن إلا وهمَ عفةٍ، وزيفُ طهرٍ، ونشيدٌ ناشز لا يصدح، رغم النشاز، من حناجر آدمية، وإنما من ثقوب مُسجّل خَرِبٍ أبله؟
لِمَ فاتني أن أخبرَ أتباعي الحراس أن قلعتهم التي شيّد خيالي أسوارها، لن تقوى على مجابهةٍ، أو حتى صمود بسيط إذا ما أشهر فارسٌ غيري (سيفهُ) في وجه بوابتها-غشائها المقدس؟
أيعرف الحرّاس أنني كنت (جنكيز) لطيفاً؟
أيا ليت الحرّاس يعرفون.

* * * *

لمَ (لم أحرر نفسي من جسدي) وأستغللت (قَطْعَ) مشهد ما قبل مشهد الذروة، ورحت خلف الكواليس صوب الغشاء/اللب ومزقته/أكلته فوراً؟
أولاً، لو افتَعلتُ، وسيكون أمراً جيداً لو افتُعِلَ، لحَرَمتُ المتفرجين أجمعين من لحظةٍ لطالما انتظروا إتيانها: أن أمزّقَ الغشاء، وآكلُ اللب، على مرآهم، مرتدياً بزة سوداء وربطة عُنق فاقعة، وهم يقذفوني بالزهور وحبات الأرزّ، وفي أيدي أبنائهم علب معدنية تبصق على رأسي وأكتافي رغوة بيضاء اللون يسمونها في حفلات زفافهم (ثلجاً).
وثانياً، أستولي أنا على عرش الكاتب وأضعه بدالي بطلاً/ضحيةً، وآخذ ثأري من هذا (العرص البشع)، وأُنهِكُ بقدر ما استطعت، مزامعه في قفل الحكاية وتحديد سُبُل نهاياتها على كيفه.
أجعله كما جعلني، فناناً في كل شيء إلا في أن أحيا وأعيش. سأجعله يترنّح كالسكير ويتخبط بين جدران الأسئلة ومتاهات الاستجواب ولكمات مقابض الحقيقة التي تحتويها قفازات الأكاذيب، والباطل.
سأعلمه معنى أن يتعلم المرء درساً. وكم هي مكلفة، باهظة، أثمانُ تعلُّمِ الدروس في المسارح والحانات: في الحياة.
سأجعله يتساءل، كما تساءلتُ: لماذا اكتفت الأكفُّ بالمداعبة ولم تباغت الجسد (بالسيف) وغرسته في أحشائهِ قبل أن ينضج ويصبح قادراً على العربدة بلا تغطية أو وِساطة من أحد؟
يلوّح الجسد بفرجهِ إلى الحشد:
"أولجوا ما تحبون".
لِمَ توانى (السيف)، يومذاك، عن هتك حرمة المقدسات التي أوت عمائمَ تكفّر عمامتي اليوم؟
لماذا لم تُعلّق المشانق حينها؟
هل جنكيزُ وحشٌ طيب؟!
هل رضخ الفعل لوهمِ الذنب فتحاشى أن يحدث خوفاً من أن يتلبّسه الأخير و يؤرق لياليه؟
ما الذي يفعله الحذر فيه إلى اليوم؟
لماذا ازدريتُ (عُطيل)؟
لماذا لم أزل أتمثّل (مصطفى سعيد)؟
لماذا لم تَأسُر دهشتي إلا مآسٍ جعلتني أُنَصّبُني بطلها/ضحيتها، وجعلت مسارحي مسرحاً لجريمتها؟
ولماذا تتعالى ضَحِكاتهم وأنا أمثّلُ مأساتي؟!
ما المضحكُ في رغبةٍ اتجهت بعدما أضنتها الهزائم نحو جسدٍ لا تحبهُ، وتحوّلت إلى فعلٍ لم يُمتِعها، وابتلعها مصيرٌ لم تخترهُ؟
ما الذي يدفعُ هذه الابتسامات الغبية لكي تظهر أثناء دخولي الخشبة وأنا خائر العزم؟
تسيرُ خطاي من دوني، ولا حيلة تستطيع أن تُغمد سيفي البغو الخفيف الذي يأبى الرجوع، ولا قوة.
إذاً، لو كنت سأصبح كاتباً وأتسلَّمُ زمام المصائر، لبوّبتُ فصل الذروة القادم/النهاية الأولى: (بهفوة) الخبير، أو (أدراكٌ أعطبَهُ خُنعٌ) في تدشين حجر أساس مشروع العهر القادم.

* * * *

متجهاً نحو الأشكال أقطّعها، ولهيب الجسد خلفي يلدع ظهري، أشم رُطْب صدأه، أنه ينتظرني، يناديني: "اطعنّي".
وأنا أسمعه ولا أفعل.
لا أفتأ أقطّع الأشكال.
_ أزعقُ في سُحن الجمهور:
"لمَ تضحكون يا بهائم؟
اسمعوا..
ألم تدركوا بعد أن العِطر لا تطلبه سوى القذارة لكي تصبح من أثره (أحلى)، ومقبولة، وأزكى؟
ألم تتعلموا من أخطائكم السابقة أنه لا مجال للتعلّم، وأن الكرّة ستعيد نفسها ما دامت الأسباب المألوفة لم تزل حيّة، وما دامت الظروف لا تُغيّر رائحتها ولا قوامها؟
ألن تغفروا للحمق المستوطن الروح، وللذباب الحائم على جيفة الجسد، فوق الأرض؟
والنسور؟
ألن تغفروا للنسور؟
ألن تأمنوا بأن الديدان
تحت الأرض
هي من سيسدلُ الستار على نهاية لعبتي، وهي من سيغلق أبواب الخروج عليّ بعد رحيلكم عني؟
وهي من سيلوكُ حياءكم القذر والأغلفة، والأصبغة، التي غشيته طوال السنين.
الديدان: الناجي الوحيد من براثن وجودكم-ثِقَلكم، هي المفترس الأفضل. الأدهى من جميع الذئاب".
أصرخُ: "هل تسمعون؟"
أصمتُ.
والجالسون في الصف الأول يضحكون.
والبقية ما زالت تقيء
D55DE373-721B-4026-A6D9-8F87AEDC703D
جاد الله قرموشة
كاتب، درس علم الاجتماع ويدرس الصحافة والإعلام في جامعة دمشق

مدونات أخرى