ما زلت أتتبعك

08 مارس 2015
+ الخط -
براغ 1985

تمشي أمامي، أتتبعك بخطى الطفل الصغير. أنظر إليك، تغني وتدندن، بينما تصعد ذلك الدرج الموصل إلى مطعمك المفضل في براغ. تجلس على الطاولة، تحيّي النادلين فيه بابتسامتك المعهودة، أجدهم سعيدين بك، تتبادلون الحديث كما لو كنتم أصدقاء دراسة، تنكسر بينكم أسوار اللغة والثقافة والديانة. ما زلت أتذكر جلساتك مع الأصدقاء، في مطعم البرسترتوري، كنت في أربعينيات العمر، ما زلت تمتلك تلك الطاقة الشبابية، والروح السعيدة الممزوجة بحزنٍ مبهم، لم يستطع ذلك الطفل الصغير فكّ طلاسمه وفهمه، عندما يشاهد عقدة حاجبك بوجهك المتكئ على أطراف أصابعك غارقاً في تفكير منهك.

أعود، وإياك، في ظلام براغ البارد إلى المنزل. نمشي عبر شوارع فارغة إلا من بياض ثلج كثيف منثور على الأرصفة والحشائش، يعكس ضوءاً خافتاً ينير ظلمة الليل، ويوقد في قلب الطفل سعادة غامرة لا توصف، كم كانت براغ رائعة، الأماكن كلها جميلة، لكن اللحظات لم تكن لتبدو سعيدة إلا بصحبتك.

محطة القطار، ميدان الساعة، نهر فلتافا، جسر تشارلز، كل معالم براغ بلحظاتها الساحرة التي وجدت فيها معك، جعلتني أسعد طفل في العالم حينها. كانت سنوات قصيرة، لكنها الأمتع والأكثر رسوخاً في ذاكرتي من أي شيء آخر.

دمشق 1986
ما زلت معك في مكتب الإعلام حيث تعمل، هذا المبنى العريق برمزيته في شارع باكستان في السبع بحرات، علمت، لاحقاً، أنه كان أول مكتب رسمي لحركة فتح تم افتتاحه في دمشق في الستينيات، تحول إلى سيطرة فتح الانتفاضة بعد الانشقاق في 1983. اخترت، حينها، أن تترك الحركة الأم وتنضم إليهم، لقناعات سياسية وجهت تحركك في تلك الفترة الشاهدة لانتكاسة سياسية وعسكرية، أصابت جسد المقاومه الفلسطينية في مقتل، وشتتت قواها المقاتلة خارج حدود المواجهة.
لست راغباً في فتح جدل سياسي معك بخصوص قرارك الذي اتخذته، أرغب فقط بتذكّر لحظات غامرة قضيناها معاً في دمشق، فأنا ما زلت ذلك الطفل الصغير ذي الست سنوات، لا تهمني السياسة، بقدر ما تغريني صحبتك إلى مراجيح حديقة السبكي، ومطعم الريس والرواق، ومقهى الروضة وهافانا، وسينما الشام والحميدية والجامع الأموي أيضاً. دمشق، بالفعل، جميلة كما براغ، على الرغم من اختلافاتهما الصارخة في الشكل والبشر والهدوء والنظام. كانت رأس جلق تبدو لي مزدحمة صاخبة وفوضوية، لكنها عريقة تمتلئ حيوية وحركة وروحاً مفعمة لم ألحظها في براغ.
مقهى الروضة مكانك المفضل، دائماً ما يكون ممتلئاً لآخره حتى ساعات الليل المتأخرة. هنا يأتي كل الناس، بمختلف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية، فيه يجلس الفنانون والشعراء والأدباء والسياسيون والعمال والعاطلون، ومعارضون عراقيون كثيرون لنظام صدام حسين. كنت تجلس مع كل هؤلاء، يطول حديثكم ويتشعّب، لكنه يبقى هادئاً. أخبرتني، لاحقاً، أن صدام حسين، بشخصه المهيب، كان يجلس في المقهى نفسه، كما يجلس معارضوه الآن، عندما كان هو أيضاً معارضاً سياسياً هارباً من نظام عبد السلام عارف. كان فقيراً يطلب الشاي والقهوة ويسجلها على دفتر الديون لصاحب المقهى، ظل اسمه موجوداً على الدفتر حتى تغيّرت الأحوال وانقلبت، ليعود إلى المقهى مجدداً، لكن بصفته نائب رئيس جمهورية العراق، فيرغب بعد أن فتحها الله عليه في سداد دينه وشطب اسمه الموقر من دفتر الديون، لكنه يفاجأ بشجاعة صديقه القديم صاحب المقهى عندما يرفض طلبه، ويصرّ على إبقاء اسمه على الدفتر الذي أصبح يريه لكل زبائنه موشوماً باسم القائد الذي افتضح أمره بين رواد مقهى الروضة.
لم يدم مكوثك طويلاً مع رفاق العمل الوطني الجدد، آثرت الانسحاب بهدوء، بعد أن شاهدتهم يحولون بنادقهم نحو المخيمات الفلسطينية، تحت مسمى استئصال العرفاتيين من مخيمات لبنان. صدمك التغيّر الذي شاهدته، وهزّك مدى الإجرام والإصرار عليه، وقد شعرت، أيضاً، بأنك تعرضت لعملية خداع كبرى، وتلقيت طعنة قاتلة في ظهرك، بعدما اكتشفت حجم التضليل الذي مارسه نظام الممانعة، من خلال كم الشعارات والأكاذيب التي اصطنعها لتجميل وجهه واستخدامه القضية الفلسطينية بأرخص الصور وأبشعها، لتوسيع نفوذه السياسي.
حاولت جاهداً أن تصرخ بعلو صوتك لتوقف القتل، ذهبت لرفيقك القديم، أبو خالد العملة، لتقنعه بجنون الممارسات التي شاهدتها بأم عينك ورجوته ليوقفها، رد عليك بإصرار أن هذه معركة كسر عظم بينه وبين عرفات. ربما كانت كذلك، لكن الأصح أن رفاقك آثروا تنفيذ أجندات نظام الأسد في ذلك الوقت، لتثبيت سيطرته الكاملة على الورقة الفلسطينية. ما كان صوتك ليكون مسموعاً من أمراء مليشيات الأسد (الثوار سابقاً)، فلم تكن إلا مجرد صحافي وكاتب لا يملك من الأمر شيئاً. لكن، يكفيك شرفاً أنك تماشيت مع ضميرك الإنساني، ورفضت مجازر وحصار المخيمات التي استمرت، فقررت الرحيل والانزواء، بعد سنوات طويلة من العمل الوطني، رافقت فيها ماجد أبو شرار وخيرة القادة والشهداء في الثورة الفلسطينية، من السعودية إلى عمّان وبيروت. 
أعيد التفكير في مجريات حياتك، لأكتشف، متأخراً، أحد أسباب حزنك المثير. شاهدت الثورة الفلسطينية، وهي تضعف وتتناثر بعد اجتياح لبنان، ثم وجدتها تأكل نفسها بصراعات أجنحتها وانشقاقاتها العسكرية. تغيرت وجهة البنادق نحو القدس، لتتحول نحو برج البراجنة والبداوي وشاتيلا، فأيقنت، ساعتها، أن الطريق إلى القدس انقطع، وأن البوصلة انكسرت، فساد التيه والضياع وسيطر التشاؤم، بعد أن زالت الأقنعة وظهرت الحقائق.


عمّان 1992
هموم الوطن لم تكن وحدها ما نغّص عيشك، كنت تعيش اشتياقاً مؤلماً لتلك المرأة التي تركتها شاباً صغيراً، ولم تعد تراها منذ خرجت من فلسطين. امتد الفراق بينكما عشرين سنة. علمت، لاحقاً، أن هذه السيدة كانت تعيش مأساتك، ولكن، بدرجات مضاعفة، ظلت سنوات تحاول عبور جسر الأردن لتراك، وتوصل حبل الأمومة المنقطع بينكما، لكنها دائماً ما كانت تمنع من اجتياز المعبر الإسرائيلي، حتى جاءت اللحظة التي سمحوا لها بالعبور.
أخيراً، ستراها غداً، ستحضر إلى عمان لتمنحك حضنها المفقود. أذكر، في هذه اللحظة، مدى سعادتك الغامرة التي تلبّستك، فبدوت طفلاً ينتظر على أحر الجمر يوم العيد. استيقظت، صباح العيد، مستعداً له، لبست بدلتك، سرحت شعرك، انتظرت بلهفة جامحة قدوم السيارة التي ستقلك إلى الجسر، فأخبروك أن أمك التي كنت على وشك أن تراها بعد ساعة، أو ساعتين، لتغمرها، نامت ليلتها سعيدة تنتظر قدوم صباح العيد مثلك، من دون أن تفيق مرة أخرى. 


سيدني 2005
ها قد بلغت الثالثة والستين، تبدو أكبر من سنك بكثير، أثقلتك الأمراض، وقلبك العليل جعلك شاحباً هزيل البدن. أراك تجلس فرحاً في قاعة انتظار المطار، قبل رحلتك إلى الوطن، ودّعتك وبقيت أتتبعك تمشي إلى بوابة المغادرين، حتى اختفيت مع العابرين. كانت هذه المرة الأخيرة التي أشاهدك فيها، رحلت إلى الوطن، حيث ولدت ونشأت، وفيه ارتحلت إلى دار البقاء.
أحداث كثيرة حصلت بعد رحيلك، سأحاول أن أوجزها لك. أعدموا صدام حسين في صبيحة العيد، ورد حديثاً أن حبل مشنقته معروض للبيع، هل تعرف من يرغب في الشراء؟ إيران وإسرائيل، تناقض غريب، لكنه ما عاد مفاجئاً، فعلى الرغم من التنافر بينهما، أجمعتا على الكراهية ليس لصدام، بل للعراق، بما مثله من مشروع نهضة وعمق أمني للعرب.
أحرق محمد البوعزيزي نفسه، فثار التوانسة، أبناء وطنه، على زين العابدين الذي فرّ بعد شهر من استمرار الانتفاضة التي امتدت نيرانها لتصل إلى مصر وليبيا واليمن وسورية، وقبل أن أنسى، انتصرت ألمانيا على الأرجنتين في نهائيات كأس العالم 2014 بالنتيجة السابقة التي شاهدناها معاً في نهائيات 1990. يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، سياسياً ورياضياً، لكنك ستبدو سعيداً بهذه الإعادة على الأقل هذه المرة، فأنت ألماني الهوى، كما أعرف، عكسي أنا الذي أعشق دييجو وفريق التانجو. لكني، سأتغاضى عن حزني وخيبتي المتجدّدة، بعد 24 عاماً من الانتظار مقابل فرحتك أنت.

avata
avata
سامر ياسر (فلسطين)
سامر ياسر (فلسطين)