اختلفت مواقف الرأي العام اللبناني من الحكم الذي صدر، يوم أمس الثلاثاء، عن المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (في 14 فبراير/شباط 2005)، فمقابل اعتبار قسم من اللبنانيين أنّ الحكم أتى مخيّباً للآمال بعد إدانة غرفة الدرجة الأولى متهما واحداً، هو سليم جميل عياش، من أصل أربعة جميعهم ينتمون إلى "حزب الله"، وبقي الكثير من الوقائع غامضاً ويفتقد للوضوح والإثبات؛ تمسّك آخرون ومنهم أفرقاء من دائرة قوى 14 آذار، بموقف أن الحكم "تاريخي" كونه اتهم للمرّة الأولى وبالاسم شخصًا في عمل إرهابي بهذه الضخامة هو قائد عسكري ينتمي إلى "حزب الله".
لكن المطّلع على مسار المحكمة الدولية منذ تأسيسها لم يفاجأ بالقرار الصادر، لناحية عدم اتهامها حزباً أو جهة محددة بل أفرادا، إذ إن طبيعة اختصاصها هي توجيه اتهامات لأفراد وليس لجهات. واليوم، تتجه الأنظار إلى المسار القضائي والقانوني بعد صدور الحكم أمس عن غرفة الدرجة الأولى بإدانة سليم عياش، وتبرئة أسد حسن صبرا، حسين حسن عنيسي، وحسن حبيب مرعي، لعدم كفاية الدليل.
ولفتت المتحدثة الرسمية باسم المحكمة الخاصة بلبنان، وجد رمضان، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "المسار القضائي بعد صدور الحكم أمس الثلاثاء، يتمثّل بتبليغ المتهمين بنتيجة الحكم، وذلك من خلال قلم المحكمة الدولية للسلطات اللبنانية، التي عليها أن تبلغ عياش بحكم الإدانة، وأسد حسن صبرا، وحسين حسن عنيسي، وحسن حبيب مرعي بحكم التبرئة، وفقاً لإجراءات التبليغ المعتمدة في لبنان".
وبعد ذلك، يصار إلى تحديد العقوبة، وفق رمضان، وهي إجراءات منفصلة بدأت أمس عند النطق بالحكم، إذ قال رئيس الغرفة إن على المدعي العام أن يودع ملاحظاته على تحديد العقوبة منذ تاريخه حتى 1 سبتمبر/أيلول المقبل، وطلب من فريق الدفاع عن عياش الجواب على الملاحظات بمهلة لا تتخطى 15 سبتمبر، ومن ثم على غرفة الدرجة الأولى أن تدرس وتقيّم الملاحظات قبل تحديد موعد تلاوة العقوبة، علماً انّها قد تصل إلى السجن المؤبد، وهي تختلف بحسب الاتهامات التي أدين بها عياش؛ أي سيجري فرض عقوبة معينة على كلّ تهمة صدرت بحقه.
الأدلة التي تنظر فيها غرفة الدرجة الأولى يجب ألا تحمل أدنى شك بإدانة المتهم، وهذا ما حصل للمُدان سليم جميل عياش
وتضيف أنّ المحكمة الخاصة بلبنان "هي محكمة مستقلة وتصدر قراراتها من الغرف التابعة لها، والحكم الذي صدر أمس ليس نهائياً، وللأفرقاء الحق بالاستئناف، الذي يمكن أن يقدم من بعد صدور حكم العقوبة، ومن ثم تصدر غرفة الدرجة الأولى مذكرات توقيف دولية ومحلية بحق عياش، وتنفيذ العقوبة يبدأ من بعدها، وعلى السلطات اللبنانية الالتزام بتنفيذ قرارات المحكمة، وهذا الالتزام نابع من النظام الأساسي للمحكمة وقواعد الإجراءات والإثبات".
وأكدت غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الخاصة بلبنان، في النتائج التي توصلت إليها، أن جريمة اغتيال الحريري معقدة ومنظمة ونفذت من قبل فريق اغتيال كان لسليم عياش دور محوري فيه. وأشارت إلى اتهامات الادعاء ضد سليم عياش بصفته "شريكا في المؤامرة لارتكاب جريمة إرهابية، وبأنه مسؤول كشريك في المؤامرة في عملية اغتيال رفيق الحريري". إضافة إلى ذلك، فإن غرفة الدرجة الأولى توصلت إلى إدانة سليم جميل عياش بقتل 21 شخصا آخر، إضافة إلى قتل رفيق الحريري عمداً باستعمال مواد متفجّرة ومحاولة قتل 226 شخصاً.
وأحيط المدعي العام علماً بقرار غرفة الدرجة الأولى بتبرئة مرعي وعنيسي وصبرا. والمدعي العام بصدد مراجعة دقيقة للنتائج التي توصلت إليها غرفة الدرجة الأولى التي تكمن وراء قرار التبرئة، واعتبار ما إذا كان الاستئناف مبرراً، علماً أنه يحق للمدعي العام استئناف قرار التبرئة في غضون ثلاثين يوماً من تاريخ النطق بالعقوبة.
وعلى صعيد الانتقادات التي طاولت حكم المحكمة بإدانتها شخصا واحدا من أصل أربعة، أوضحت رمضان، لـ"العربي الجديد"، أنّ "على غرفة الدرجة الأولى أن تقيّم الأدلة التي عرضت أمامها طوال فترة المحاكمة والإجراءات التي رافقتها منذ عام 2014 حتى يومنا هذا، وكان هناك وقائع مهمة جداً للحكم تثبَّت منها قضاة غرفة درجة أولى في محكمة دولية، وهذا الحكم تاريخي لأنّه للمرّة الأولى يصدر حكم في جريمة الإرهاب على المستوى الدولي".
وأشارت إلى أنّ "معيار الأدلة يجب أن يكون عالياً جداً، ومن دون أدنى شكّ معقول، بمعنى أنّ الأدلة التي تنظر فيها غرفة الدرجة الأولى يجب ألا تحمل أدنى شك بإدانة المتهم، وهذا ما حصل للمُدان سليم جميل عياش، إذ أثبتت الغرفة أنّ الأدلة ضده لا تحمل أدنى شك معقول، والإثباتات استندت إلى دليل قضائي ليس مبنياً على تحاليل أو تكهنات، وهنا أهميته. والواقع الثاني لإدانته، أنّ الغرفة أثبتت أن الاعتداء كان عبارة عن عمل إرهابي هدفه زعزعة استقرار لبنان باغتيال رفيق الحريري، وأنّه كان من غير المعقول أن سليم عياش يقوم بالمؤامرة لوحده، وأثبتت الأدلة من دون أدنى شك أنّ شبكة الاتصالات الحمراء التي تتضمّن 8 مستخدمين من بينهم عياش، شكلت فريق الاغتيال، وكل الأدلة الظرفية التي قدّمها المدعي العام نسبة إلى عياش أكدت الغرفة بأنها لا تحمل أدنى شك معقول يحول دون إدانته بالاعتداء المدمّر الذي وقع في 14 فبراير 2005".
وأضافت: "بالنسبة إلى المتهمين الثلاثة الآخرين، أسد حسن صبرا، حسين حسن عنيسي، حسن حبيب مرعي، فإن غرفة الدرجة الأولى لم تكن مقتنعة بشكل لا يحمل الشك بإدانتهم، لذلك أتى قرار تبرئتهم، وهذا هو معيار العدالة الدولية".
وقالت المتحدثة الرسمية باسم المحكمة إنّ الاتهام لا يطاول جهات أو أحزاباً، بل فقط الأفراد، حتى أنه في حال صدر على سبيل المثال حكم بحق رئيس جمهورية؛ يحاكم أمام المحاكم الدولية على مسؤوليته الجنائية الفردية، ومن الوقائع التي تضمنتها المحكمة أنّه قد يكون لـ"حزب الله" وسورية الدافع لاغتيال الحريري، باعتبار أن العملية لم تأتِ من فراغ سياسي، وكان هناك عوامل ومعطيات قدّمت للمحكمة كأدلة وقيّمتها وأثبتتها، مثل تثبيت المؤامرة التي بدأت، بحسب المحكمة، من أول فبراير/شباط 2005 مع زيارة نائب الرئيس السوري لرفيق الحريري، ولقاء البريستول الثالث في الثاني من فبراير".
من جهته، قال الخبير الدستوري والقانوني سعيد مالك، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المحكمة الدولية أنشئت بقرار عن مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، والمحكمة لم تصل بعد إلى خاتمة أعمالها، بل صدر حكم ابتدائي من قبل غرفة الدرجة الأولى، وهو قابلٌ للاستئناف سواء من المدعي العام أو من المُدان سليم جميل عياش، وبالتالي، فإنّ الحكم لم يصبح حتى تاريخه قراراً مبرماً"، موضحاً أن "مجلس الأمن لا يمكن أن يتدخّل إلا من زاوية تنفيذ الحكم، أما نقضه واعتباره كأنه لم يكن فهي سيناريوهات لا أساس لا من الصحة والقانونية".
في حال تمنّعت أو تلكّأت السلطات اللبنانية عن تنفيذ الحكم بعد تبلّغها إياه، فمن الممكن أن تتخذ الأمم المتحدة إجراءات وتدابيرا من أجل إلزامها التجاوب معها
ولفت مالك، إلى أنّ "مجلس الأمن يمكنه أن يتدخل في الملف عندما يصدر الحكم بشكل مبرم ونهائي، وفي حال تمنّعت أو تلكّأت السلطات اللبنانية عن تنفيذ الحكم بعد تبلّغها إياه، فمن الممكن أن تتخذ الأمم المتحدة إجراءات وتدابير من أجل إلزامها التجاوب معها، لكن مجلس الأمن مدرك تماماً أنّ الموضوع يخرج عن سيطرة الحكومة وإمكاناتها، وهو يعرف، كما الدول الأعضاء، الوضع اللبناني الداخلي ومدى سيطرة حزب الله وسطوته على القرار الداخلي والخارجي".
وأشار الخبير الدستوري، إلى أنّ "هناك طرق مراجعة لكلّ متضرّر أو من لا يرى أنه حقق مبتغاه، عبر محكمة الاستئناف، التي له أن يلجأ إليها، وليس باستطاعة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، أو ذوي الدم والمصلحة، استئناف الحكم، بغض النظر أكانوا موافقين على الحكم أم معارضين له، إذ لا صفة لديه للاستئناف"، لافتاً إلى أن "الحكم بعد انتهاء مهلة الاستئناف لا يمكن الطعن به مستقبلاً، إلا في حالة طلب إعادة المحاكمة".
من جهتها، قالت رمضان في هذا السياق، إنه إذا جرى توقيف المتهم في تاريخ لاحق، يجوز أن يقدم طلباً كتابياً من أجل إعادة محاكمته، وتتاح للمدان خيارات عدة، منها قبول الحكم و/أو العقوبة كتابياً أو الطعن بكليهما أو القبول بحكم الإدانة وطلب عقد جلسة جديدة لتحديد العقوبة.
من جهته، قال القيادي في "تيار المستقبل"، النائب السابق مصطفى علوش، لـ"العربي الجديد"، إن "نظام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التأسيسي يمنع المحكمة من أنّ تحكم بحق رؤساء الأحزاب والقادة ورؤساء الدول ومعطي الأوامر، وعملها يرتبط بالقرائن التي تتعلق بمن نفذ العمل على الأرض ولو استنتجت من أعطى الأمر".
ولفت علوش، إلى أنّ "عدم وصول الشهود إلى المحكمة، وعدم الوصول إلى المرتبطين بالعملية الإرهابية للتحقيق معهم هو الأهم، الأمر الذي حصر القضية بالمنفذين فقط، ولو أن الاستنتاجات تشير إلى ارتباط منظمة كبرى متعددة الجوانب، ومعها النظامان الإيراني والسوري، ولكن المحكمة الدولية تعتمد القرائن التي لا تقبل الشك من أجل الإدانة".
وأضاف علوش، أن "التمنيات شيء والأمور القضائية الدولية شيء آخر، ومن الطبيعي أن هناك خيبات أمل على صعيد جمهور (المستقبل) أو غيرهم، لأن القهر يتخطى اغتيال رفيق الحريري، وتراكم على مدى عقود من ظلم المخابرات والمتفجرات والاغتيالات، فتمنى هؤلاء إدانة نظام بشار الأسد والأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، خصوصاً أنهم لا يعلمون بطبيعة عمل المحكمة، لكن القرار تاريخي وأدين فيه قيادي في الحزب، وحمايته للمتهمين إدانة إضافية له".