"ناشونال"، علامة تجارية لأحد أهم صناعات الأجهزة الكهربائية اليابانية. من المفارقة أن يحمل اسم منتج وطني كلمة إنكليزية تعني "وطنيّاً". إلى هذه الفكرة تلفت الكاتبة اليابانية الألمانية، يوكو تاوادا، في مقال بعنوان "هل اليابان أوروبية؟"، ولكن ألا يبدو السؤال أكثر واقعية لو كان: هل اليابان أميركية؟
لم يمض شهر واحد على 15 آب/ أغسطس 1945، نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية الاحتلال الأميركي لليابان (انتهى في 1952)، حتى بدأ ما يسميه عالم الاجتماع الياباني، شونيا يوشيمي، "أمركة الآذان والعيون"، ستطبع دار "أوغاوا كيكوماستو" كتيّباً عن الحوار الأنغلو - ياباني، ليتعلّم اليابانيون السلام والسؤال بإنكليزية ركيكة، وستباع منه أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون نسخة في أسابيع. ستبث الإذاعة يومياً برنامجاً صباحياً بعنوان "تعالي تعالي أيتها الإنكليزية". ستنشر "أساهي"، أهم صحيفة يومية آنذاك، وبانتظام، "كوميكساً" أسبوعيّاً بعنوان "بلوندي". ولن تنتهي الأشهر الثلاثة الأولى بعد الاحتلال حتى يُنتج فيلم "من أجل حياة منزلية رائعة"، ويُعرض يومياً ولأشهر في صالات السينما، ساخراً من البيت الياباني التقليدي والمطبخ البسيط، مقابل تصميم البيت والمطبخ الأميركي النموذج المثالي لراحة العائلة.
لم تذهب "أمركة الآذان والعيون" سدًى. فعلى النقيض تماماً من الفكرة الشائعة عن اليابان كبلد يتمسّك بتقاليده بعناد، تشير الأرقام إلى أنه ومع حلول الستينيات كان الشباب الياباني مستهلكاً كبيراً لمفردات الثقافة الشعبية الأميركية، التي سيواصل الاندماج فيها ليبلغ ذروته اليوم، إذ تشير إحدى دراسات يوشيمي الميدانية في 2012 إلى أن 80% من الشعب الياباني مؤيّد تماماً للسياسيات الأميركية ومتبنٍّ للثقافة الشعبية الأميركية ونمط العيش. في المقابل، النسبة نفسها تقريباً، كانت مؤيدة للثقافة الصينية في الخمسينيات.
شيئاً فشيئاً، سيجرّد الاحتلال طوكيو من ملابسها، حتى أسماء الشوراع العريقة غيّرها إلى أسماء إنكليزية، ومنها ما أطلق عليها X أو Y. لن ينتشر الجيش الأميركي بشكل فاقع، بل سيتخذ من نفس مواقع الجيش الياباني المألوفة مكاناً له، كما لو أن شيئاً لم يحدث، لقد حلّ جيش محل آخر. مثال على ذلك، منطقة هاراجوكو ويويوغي التي أصبحت تُعرف بـ "مرتفعات واشنطن" (في ما بعد ستصبح ستاداً للأولمبياد)، وكانت قاعدة عسكرية يابانية قبل أن تتحوّل إلى بلدة أميركية لعائلات الجيش وسط طوكيو في ذلك الوقت، بيوت وأسواق طعام وأزياء وحانات وأماكن للرقص تصدح فيها الموسيقى وتنضح بالثقافة الأميركية. أما المنطقة المحيطة بالقصر الإمبراطوري فستصبح منطقة الاحتفالات بالأعياد الأميركية الوطنية والكريسماس والمارشالات الاحتفالية العسكرية، ومكان تعارف اليابانيات بالجنود الأميركان. وكذلك حدث في جزيرة شانون والتي أصبحت بفضل القواعد الأميركية فيها نسخة من هاواي.
وَجدت طريقة المرئي/ اللامرئي (الثقافة الشعبية الأميركية/ الحضور العسكري الأميركي) التي اتبعها الاحتلال، صداها في اللاوعي الإمبريالي الياباني، الفكرة التي يتناولها يوشيمي من خلال عمل واسع يتناول مختلف جوانب حياة المجتمع الياباني بعنوان "مع أميركا/ ضد أميركا: اللاوعي السياسي في يابان ما بعد الحرب"، لافتاً إلى أن طوكيو قبل 1945 كانت ذات عقلية توسعية (اليابان لها تاريخ في الاحتلال؛ الصين وتايوان وكوريا وجزر شرق وجنوب آسيوية أخرى). بدا الأمر وكأن هناك تفاهماً مع الشرط الكولونيالي جعل طوكيو، في العقود التالية للحرب، تحمل وجهين وتتمكّن بسرعة من فصل العناصر الثقافية للمحتل عن العنف العسكري الأميركي (إن كانت الحرب العالمية الثانية هي زمان ومكان فظائع الهولوكوست، فإن قرار رمي القنبلة النووية وتنفيذه، لا يقل فظاعة عن جرائم معسكرات الإبادة).
كانت الحرب العالمية الثانية، (1939 - 1945)، أوّل الحروب التي لعب فيها قصف المدن جواً وتسويتها من الأعلى دوراً مركزياً. الألمان قصفوا لندن ودمروها تماماً، البريطانيون والأميركان قصفوا درسدن ومدن ألمانية أخرى، اليابانيون قصفوا مدناً صينية مثل شنغهاي ونانجينغ وتشونغكينغ، أما الأميركان فقصفوا أوكيناوا وطوكيو وأكثر من 200 مدينة في البلاد، ثم جرّبوا قنبلة جديدة على هيروشيما قتلت 200 ألف ضحية في دقائق، وفي أوكيناوا 150 ألف وفي كويوكو 100 ألف، وألقوا كرة من البلاتونيوم عرفت بـ "الرجل البدين" على ناغزاكي.
طوكيو كانت انتهت قبل هيروشيما وناغازاكي بخمسة أشهر مع انهيار سلاح الجو الياباني. ولعشرة ليالٍ من آذار/ مارس، حلّقت طائرات سلاح الجو الأميركية في نزهة خفيضة للقصف من مسافة قريبة في الليل، ومع حلول العاشر منه كان قلب طوكيو قد احترق بالكامل. لم يشعر سلاح الجو الأميركي بأمان كهذا في القصف من قبل؛ شعور سيستمر في حروبه في القرنين العشرين والواحد والعشرين؛ فيتنام وكوريا وحرب الخليج ثم احتلال أفغانستان والعراق.
وإن كانت الاحتلالات والحروب التي خاضتها أميركا قد ارتدت فيها زيّ المخلّص، فإنها في اليابان، بدت كما لو أنها قادمة بثقافة خفيفة على أهلها، ومحرّرة لهم من قيود كتلك التي تفرضها التقاليد اليابانية، البيت الأميركي المعاصر مقابل الياباني التقليدي، الحياة المنفتحة مقابل التقاليد الصارمة، الـ فاشن الحديث من جينز وفساتين خفيفة مقابل الأزياء الكلاسيكية المعقدة.
صورة الأميركي كمحتل كانت تُمحى أولاً بأول، حتى في الوثائق الفوتوغرافية العسكرية. ستهبط طيارة الجنرال دوغلاس ماكارثر في مطار "أتسوجي" نهاية آب/ أغسطس 1945، ورغم وجود الكثير من الصور والتسجيلات الوثائقية (المتوفرة الآن على يوتيوب)، لم تظهر صوره في صحف اليوم التالي لذلك النهار. لا وجود لجنرال يهبط من السماء على طوكيو، كان جهاز الإعلام الأميركي حريصاً على بقائه لامرئياً، أما الصور المتوفرة فعلاً فهي من فوق كتف الجنرال من الخلف، كأنه شخص يدخل إلى البيت ولم ينزل من درج طائرة.
تظاهر الإعلام أن الاحتلال الأميركي لا وجود له، من هنا انتشر نوعان من الصور: تلك الموجهة إلى الشعب الأميركي، وأخرى إلى الياباني. في الأولى مصوّرون يتحلّق حولهم أطفال يابانيون فضوليّون، أو امرأة شقراء تتفرّج على النساء أو تتمشى في سوق عجيبة للخضروات؛ حوّلت الكاميرا الأميركية الشعب الواقع تحت هيمنتها إلى شيء يمكن الوقوف إلى جانبه والتقاط الصور. أما الصورة الموجهة للياباني فهي صورة فيها اللامرئي أكثر بكثير من المرئي، مثل صورة ماكارثر من الخلف. لقد تصرّف الجيش كأنه كاميرا وتصرّف الإعلام كأنه جيشٌ.