مالك شبل، المفكر الجزائري المقيم في فرنسا، متعدّد الاهتمامات والمشارب، وإن بدت غالبية كتبه تدور في فلك "الإسلاميّات"، إلا أن المتابع لنشاطه الفكري لن تفوته ملاحظة العلوم الإنسانية الأخرى التي تحفّ بها. لأن شبل يحمل ثلاث شهادات دكتوراه (في علم النفس، والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية)، وهو ما كان له التأثير الحاسم على نتاج شبل الذي يقول إن "التمازج والتلاقح بين هذه المعارف والتخصصات، قادني بشكل عفوي، إلى معالجة المواضيع بشكل شمولي وتكاملي. فقد اكتسبت هذا النزوع المنهجي الشمولي الذي يفسّر هذا الطموح أو هذه الرغبة بإحاطة المواضيع التي أتناولها بشكل شمولي". ومن نافل الأمر، أن اهتمام مالك بدراسة الإسلام يعود أيضًا إلى وضعه كفرنسي من أصل مسلمٍ في فرنسا، ذلك لأن العيش ضمن مجتمع علماني أوروبي، ينظر إلى الدين الإسلامي بطريقة "خاصّة"، شغفت شبل الذي يجيد المقابلة بين نظرة الباحثين الأوروبيين وفعلها ونظرة الباحثين العرب وأثرها: "أظننا نعاني من إشكالين متضافرين؛ الأوّل، أننا ورثنا عن أسلافنا تصورًا ورؤيا أخضعت دراسة الإسلام لتوجيه خاصّ. كانت للأوروبيين مصالح خاصة من دراستهم للإسلام. فقد درسوه انطلاقًا من اهتماماتهم وانشغالاتهم الخاصّة الملحة، وتصوراتهم التاريخية المسبقة. انطلقوا من فكرة أن الإسلام يشكّل خطرًا على المسيحية، مثل الباحث اليسوعي الشهير هنري لامنس، أو غيره من الباحثين في الشأن الإسلامي بداية القرن العشرين. إذ إن كلّ الدراسات التي أنجزوها، وبالأخص تلك التي تمّت في المعهد الفرنسي بدمشق، والمركز الفرنسي في القاهرة، كانت تسعى إلى البحث عن اللحظة التي سيهزم فيها الإسلام المسيحية. من هنا، هدفت إلى التصدّي للإسلام والوقوف عند نقاط ضعفه. وهذه المعاينة التاريخية الأولى، يمكن إثبات صحّتها عبر مئات الكتب، كمثل تلك التي ألّفها أرنست رينان. الإشكال الثاني، أننا في الجانب العربي، لم تكن لدينا منهجية قائمة بذاتها للردّ على تحديات تلك الفترة، ولم نملك تحليلًا عصريًا أو حداثيًا للإسلام. كنّا ولا نزال أسرى مقاربة حرفية، أدبية وشعرية مع تمرير خطاب مفاده أن كلّ ما يتضمنه الإسلام عظيم وخارق، وليس موضعًا لأي شكّ أو خطأ. أي أننا لسنا أمام مقاربة حداثية. وفي الحقيقة، لم تكن لدى العرب رغبة لتكوين أو تأسيس مقاربة منهجية للإسلام كفيلة بإنتاج عقلانية، لأنهم كانوا أسرى تصوّرات متعالية". يبدو كلام شبل السابق، محفّزًا لسؤاله عن "الإصلاحيين" العرب، وخاصّة أنه مؤلّف كتاب "تغيير الإسلام؛ معجم الإصلاحيين المسلمين من البدايات إلى اليوم". يستدرك شبل "تمّت فعلًا محاولتان أو ثلاثة قام بها محمّد عبده، ومحمّد رضا، ومالك بن نبي، وعلال الفاسي، الذي أصدر عام 1953 كتابه المهمّ "النقد الذاتي"، وهو من أهم المحاولات الإصلاحية التي لم ترَ النور. لقد سعى الإصلاحيون إلى إصلاح الإسلام لا إلى إصلاح الدراسات العلمية عن الإسلام. وهما شيئان مختلفان تمامًا. فقد شهد العالم العربي فعلًا حركة إصلاحية في القرن التاسع عشر، حين حاولت الدولة العثمانية الإشراف على إعادة تنظيم الشأن الإسلامي. ونجمت عن ذلك ردود فعل عربية. إذ وصل العالم العربي إلى نتيجة تقول بوجود قطب مزدهر ومتحضّر اسمه أوروبا، قطب قوي تكنولوجيًا، وإن كان منقسمًا فكريًا. ثم هناك قطب شرقي تحت اسم "الامبراطورية العثمانية"، إذ لم يخصّص أي حيّز للعالم العربي الذي كان يشغل الهامش، كونه خاضعٌ للسيطرة العثمانية وتحت سيادة خلفاء ضعفاء يعطون أوامرهم انطلاقًا من إسطنبول والقسطنطينية. كانت حركة النهضة بمثابة ردّ على هذا الواقع، حيث سعى العرب إلى مجابهة أمرين؛ الانحطاط الذي كانوا يقبعون فيه منذ ثلاثة قرون، حيث أدركوا جسامته، أمّا الأمر الثاني فموقفهم تجاه بوادر نقاط ضعف الامبراطورية العثمانية، فحاولوا العثور على بديل أو بدائل عربية لضعف الامبراطورية العثمانية. هكذا تشكّلت حركة النهضة من مثقفين مسلمين أعادوا صياغة الهوية العربية على المستويين اللغوي والمجتمعاتي. لذا، نرى حركة الإصلاح التي تقوم على تصحيح صورة الإسلام، مع التشديد على عظمته كحضارة لا كبحث علمي. لأن هذا الأخير كان دائمًا الحلقة الضعيفة، فغالبية المثقّفين استندوا على القرآن وتاريخ الإسلام فحسب. من هنا أقول إن مسألة المقاربة العلمية للإسلام (النفسية، الأنثروبولوجية، التاريخية)، مكسب للمثقفين العرب. وضمن هذا الإطار تندرج جهود محمّد أركون وغيره. ونحن اليوم في بدايات إعادة البناء الأنثروبولوجي الشمولي للمقاربة العلمية وللمضمون الأنثروبولوجي للإسلام".
ولئلا يظهر كلام مالك شبل أدنى إلى التنظير، فقد ألّف كتبًا عديدة، قد تجيب عن السؤال؛ إن كانت الحداثة ابنة العقل، فكيف يمكن للعالم العربي جعلها مبدأً لمستقبله؟ يعود شبل إلى أهمية العلم الذي اكتسبه ودوره، فيقول: "حين نلت استقلاليتي النظرية والمنهجية، لاحظتُ وجود نقص على مستوى تحليل الإسلام، ومستوى توافقه وتأقلمه مع العلوم البحتة والدقيقة، أي العلوم العقلانية والاجتماعية. فمن جهة، لدينا دين عظيم، ومن جهة أخرى ثمّة غياب للعقلانية أو المقاربة العقلانية، كطلاق بين الأمرين، وهو أمرٌ تصعب معالجته عبر كتاب واحد، لذا وضعت برنامجًا يهتم بتاريخ العقليات في العالم العربي، وهو بشكل ما مقاربة أنثروبولوجية للإسلام، تنبني على أسس محددة ودقيقة. العمل الذي أنجزته منذ 30 عامًا هو معالجة لمواضيع منفصلة، وليست تراكمًا لمواضيع أخرى، بل مواضيع جديدة تهتمّ بالذات والجسد، والعشق والمتخيّل وغيرها، وهي كلّها تؤلّف نتاجًا واحدًا، ولا يمكن الفصل بينها. لم أغيّر مقاربتي هذه ولا قيد أنملة. فالهدف إنجاز مقاربة أنثروبولوجية عقلانية شمولية للحضارة الإسلامية، وهو ما سمّيته "إسلام الأنوار". إذ بدا لي التعبير أقرب إلى ما أرغب في إنجازه، ومما تمّ إنجازه حين خرج الغرب من شرنقة الكنيسة، وابتكر أدوات تفرّق بين الدين والعلم، وشدّد أن التقدّم لا يمكن أن يكون أحادي المصدر، الذي هو الدين. خفّفت من وقع هذا البرنامج بالإبقاء على كلمة "أنوار"، لكن مع التخلّي عن فكرة "قطع رؤوس كلّ رجالات الدين، وإزالة الدين من المجال العام"، مثلما حصل أيام الثورة الفرنسية. لأنني غير مؤمن بهذه الفكرة التي تزجّ بنا في معركة أيديولوجية لا علمية. أريد التخفيف من ثقل ما هو ديني، للتشديد على المقاربة العلمية للإسلام. ولا أرغب في استئصال رجالات الدين من المجال العام".
وإذ يبدو من غير الممكن تجاهل وضع الإسلام في فرنسا، حيث يعيش شبل وينشر كتبه التي تلاقي رواجًا واهتمامًا، خاصّة مع تركيز الإعلام الفرنسي على مسألة الحجاب والبرقع، سأله "ملحق الثقافة" عن هذه النقطة تحديدًا، فأجاب: "في ما يخصّ الحجاب والبرقع واعتناق الإسلام، وتجاوزات أو شطط بعض الذين اعتنقوا الإسلام حديثًا، أظنّ بأنه يجب العودة إلى المبادئ الأساسية؛ هل الحجاب فرض للتأكّد من إيمان شخص ما؟ شخصيًا لا أظن ذلك، وإلا لاعتبرنا القرون التي مضت قروناً بلا مسلمين، أو لاعتبرنا النساء اللواتي تعملن في بلدان مثل المغرب والجزائر وتونس، مسلمات غير فاضلات. وثمة مثال، لم يشر ابن حزم في فتاويه إلى الحجاب. إمّا أن قضية الحجاب لم تكن مطروحة، أو أن الحجاب لم يكن موجودًا. أظن الحجاب مرآة لتحولات اجتماعية محددّة؛ فقد نشأ في فترة معينة وفي ظروف معينة. لسنا اليوم أبناء هذه المرحلة. لكن علينا ألا نتعامل معه بعدوانية كما يفعل قسم كبير من الإعلام الفرنسي. حين نراجع تاريخ الإسلام، نلاحظ أن المسألة لم تثر النقاش مثلما أثارته خلال القرن العشرين، ولم تطرح أبدًا في القرون الماضية. نحن في فرنسا أقلية داخل مجال غير إسلامي. وعليه، فإن على الأقلية التواجد كأقلية. ويصعب عليّ إدراك أو فهم رغبة الأقلية في فرض نفسها كأغلبية. عندما كان الإسلام يمثّل دين الأغلبية في القرون الوسطى، لم يُطرح السؤال ولم توجد أي مشكلة. نحن أقلية في بلدان لا إسلامية، وفي مناخات أحياناً عدائية وعدوانية. لذا، فإن التكيّف مع ظروف البلد مسألة حيوية. أنا خصم لدود للبرقع الذي لا يمت للإسلام بصلة، وله علاقة باللباس التقليدي المنتشر في اليمن أو أفغانستان أو الباكستان، خصوصًا لدى بعض القبائل. أمّا الحجاب، فثمة درجات يمكن أن نخوض النقاش فيها. لكن علينا التأقلم مع قوانين الجمهورية، لئلا نكون خارج إجماع قيمها. علينا قبول المعاهدة التي تقترحها الجمهورية. أمّا التديّن وممارسة الشعائر، فهذا شأن الأفراد. أنا لا أتحدّث هنا عن إسلام علماني، بل عن إسلام حديث يخصّص حيّزًا لكلّ مسلم".
(كاتب مغربي)
ولئلا يظهر كلام مالك شبل أدنى إلى التنظير، فقد ألّف كتبًا عديدة، قد تجيب عن السؤال؛ إن كانت الحداثة ابنة العقل، فكيف يمكن للعالم العربي جعلها مبدأً لمستقبله؟ يعود شبل إلى أهمية العلم الذي اكتسبه ودوره، فيقول: "حين نلت استقلاليتي النظرية والمنهجية، لاحظتُ وجود نقص على مستوى تحليل الإسلام، ومستوى توافقه وتأقلمه مع العلوم البحتة والدقيقة، أي العلوم العقلانية والاجتماعية. فمن جهة، لدينا دين عظيم، ومن جهة أخرى ثمّة غياب للعقلانية أو المقاربة العقلانية، كطلاق بين الأمرين، وهو أمرٌ تصعب معالجته عبر كتاب واحد، لذا وضعت برنامجًا يهتم بتاريخ العقليات في العالم العربي، وهو بشكل ما مقاربة أنثروبولوجية للإسلام، تنبني على أسس محددة ودقيقة. العمل الذي أنجزته منذ 30 عامًا هو معالجة لمواضيع منفصلة، وليست تراكمًا لمواضيع أخرى، بل مواضيع جديدة تهتمّ بالذات والجسد، والعشق والمتخيّل وغيرها، وهي كلّها تؤلّف نتاجًا واحدًا، ولا يمكن الفصل بينها. لم أغيّر مقاربتي هذه ولا قيد أنملة. فالهدف إنجاز مقاربة أنثروبولوجية عقلانية شمولية للحضارة الإسلامية، وهو ما سمّيته "إسلام الأنوار". إذ بدا لي التعبير أقرب إلى ما أرغب في إنجازه، ومما تمّ إنجازه حين خرج الغرب من شرنقة الكنيسة، وابتكر أدوات تفرّق بين الدين والعلم، وشدّد أن التقدّم لا يمكن أن يكون أحادي المصدر، الذي هو الدين. خفّفت من وقع هذا البرنامج بالإبقاء على كلمة "أنوار"، لكن مع التخلّي عن فكرة "قطع رؤوس كلّ رجالات الدين، وإزالة الدين من المجال العام"، مثلما حصل أيام الثورة الفرنسية. لأنني غير مؤمن بهذه الفكرة التي تزجّ بنا في معركة أيديولوجية لا علمية. أريد التخفيف من ثقل ما هو ديني، للتشديد على المقاربة العلمية للإسلام. ولا أرغب في استئصال رجالات الدين من المجال العام".
وإذ يبدو من غير الممكن تجاهل وضع الإسلام في فرنسا، حيث يعيش شبل وينشر كتبه التي تلاقي رواجًا واهتمامًا، خاصّة مع تركيز الإعلام الفرنسي على مسألة الحجاب والبرقع، سأله "ملحق الثقافة" عن هذه النقطة تحديدًا، فأجاب: "في ما يخصّ الحجاب والبرقع واعتناق الإسلام، وتجاوزات أو شطط بعض الذين اعتنقوا الإسلام حديثًا، أظنّ بأنه يجب العودة إلى المبادئ الأساسية؛ هل الحجاب فرض للتأكّد من إيمان شخص ما؟ شخصيًا لا أظن ذلك، وإلا لاعتبرنا القرون التي مضت قروناً بلا مسلمين، أو لاعتبرنا النساء اللواتي تعملن في بلدان مثل المغرب والجزائر وتونس، مسلمات غير فاضلات. وثمة مثال، لم يشر ابن حزم في فتاويه إلى الحجاب. إمّا أن قضية الحجاب لم تكن مطروحة، أو أن الحجاب لم يكن موجودًا. أظن الحجاب مرآة لتحولات اجتماعية محددّة؛ فقد نشأ في فترة معينة وفي ظروف معينة. لسنا اليوم أبناء هذه المرحلة. لكن علينا ألا نتعامل معه بعدوانية كما يفعل قسم كبير من الإعلام الفرنسي. حين نراجع تاريخ الإسلام، نلاحظ أن المسألة لم تثر النقاش مثلما أثارته خلال القرن العشرين، ولم تطرح أبدًا في القرون الماضية. نحن في فرنسا أقلية داخل مجال غير إسلامي. وعليه، فإن على الأقلية التواجد كأقلية. ويصعب عليّ إدراك أو فهم رغبة الأقلية في فرض نفسها كأغلبية. عندما كان الإسلام يمثّل دين الأغلبية في القرون الوسطى، لم يُطرح السؤال ولم توجد أي مشكلة. نحن أقلية في بلدان لا إسلامية، وفي مناخات أحياناً عدائية وعدوانية. لذا، فإن التكيّف مع ظروف البلد مسألة حيوية. أنا خصم لدود للبرقع الذي لا يمت للإسلام بصلة، وله علاقة باللباس التقليدي المنتشر في اليمن أو أفغانستان أو الباكستان، خصوصًا لدى بعض القبائل. أمّا الحجاب، فثمة درجات يمكن أن نخوض النقاش فيها. لكن علينا التأقلم مع قوانين الجمهورية، لئلا نكون خارج إجماع قيمها. علينا قبول المعاهدة التي تقترحها الجمهورية. أمّا التديّن وممارسة الشعائر، فهذا شأن الأفراد. أنا لا أتحدّث هنا عن إسلام علماني، بل عن إسلام حديث يخصّص حيّزًا لكلّ مسلم".
(كاتب مغربي)