في استعادة لمسار الفنان الإسباني ماريانو فورتوني (ريوس 1838 - روما 1874)، تُعرض حتى 18 من الشهر الجاري في "متحف البرادو" في مدريد 170 لوحة تشملُ أهم أعماله.
وفي تقديم أعدّه منسّق المعرض، خابيير بارون، وهو رئيس قسم المحافظة على الأعمال الفنية للقرن التاسع عشر في المتحف، جرت الإشارة إلى ما يمكن أن تكون مفاتيح لتأويل أعماله. يقول بارون: "لقد كان فروتوني بارعاً، أجل، لكن البراعة يمكن أن يكون لها معنيان: أحدهما إيجابي، يرتبط بالتمكن من أدوات الفن، وآخر سلبي، وغير عادل، حيث أننا حيال فنانٍ يقع في تنافرٍ مع الحداثة".
اكتسب فورتوني شهرة بفضل لوحاته ذات المواضيع العربية، لكن انتصار الانطباعية في القرن التاسع عشر وضعه مثل كثيرين من الفنانين الكبار لتلك الحقبة في مواقع خلفية، مواقع الظل في تاريخ الفن، فتاريخ الفن بُنِيَ عبر محاور متسلسلة هي: التيار الواقعي، والانطباعي وتيارات ما بعد الانطباعية، والتيارات الطليعية، وغيرها، وكما يقول بارون فإن "كل ما لا يتأطر ضمنها بقِيَ مبعداً خارج تاريخ الفن (...) نعلم جيداً أن التصنيفات قاتلة بالنسبة للفن".
كان فورتوني متمكّناً من تقنيته، إضافة إلى نظرته المتفردة، وخياله الذي يتجاوز الحَرْفية التي تقف خلف الدوافع الإبداعية. وقد توفي في السادسة والثلاثين من عمره، تحديداً لما كانت شخصيّته وأعماله الفنية، بل وهواجسه وقلقه يمضيان باتجاه التحوُّل. لم يكن غامضاً ولا عصياً على الفهم، كان فناناً يسير باتجاه تحقيق نجاحات فورية، دائمة ومتواصلة، شهرته كانت تتسعُ وتتزايدُ في إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية بشكل أكبر منها في إسبانيا. ولعل هذا المعرض بتجميعه لعدد كبير من أعماله الفنية، يحقق بعض التوازن بين شعبيته في بلاده وتلك التي حقّقها في في الخارج.
تعزّزت شهرة فورتوني بفضل إعجاب رسامين كبار أثناء القرن التاسع عشر بعمله الفني المعنون بـ"الحاذي" (1865)، أمثال أوجين دولاكروا، وقد كان هؤلاء يعتبرون حراساً شرعيين لفضاء الفن. لكن الذوق العام كان يسير في اتجاه معاكس تماماً للاتجاهات التزيينية مثل التيار الاستشراقي أو التاريخي... كما أن الأعمال الفنية الكبرى في مناسبات جد نادرة كانت تشير إلى التوترات الاجتماعية الهائلة لتلك اللحظات التاريخية المعيشة.
ظل الرسامون بعيدين عن الدوافع الفكرية المتعالية أثناء هذه الحقبة الزمنية، التي صادفت بروز اسم فورتوني كفنان. إنها حقبة فراغ فكري وفني طبع الزمن الذي عاشه فورتوني، وأثر في شخصيته وفي أعماله بشكل عميق، وقد منعه ذلك من التحليق أبعد من أفقه المجسّد في طريقته المذهلة في الرسم. فهو يعتبر واحداً من الموهوبين الذين يصحّ فيهم القول بأنهم ولدوا والفرشاة في أيديهم.
بحسب شهاداتٍ معاصرة له، فإن لوحته الزيتية الأولى كانت صورة لرأس الفنان جوليان، وقد أنجزها وهو في سن الثانية عشرة. وفي التاسعة عشرة، حصل على منحة دراسية إلى روما بعد إنجازه للوحته المعنونة: "رامون بيرينجير الثالث يرفع راية برشلونة فوق قلعة فويش"، وهي لوحة تاريخية نادرة في أعماله.
ستساعده فترة دراسته في روما على تعميق معارفه وتطوير ممارسته الفنية والتقنية للرسم مسترشداً بمايكل أنجلو بالخصوص. وقد ارتبطت أعماله وقتها بالجسد، وهي أعمال لا قيمة فنية لها سوى كشفها لدقة تملكه للقدرات التقنية.
أما العمل الفني الزيتي الأقدم في هذا المعرض فينتمي إلى سنة 1861 وهو معنونٌ بـ"جارية"، يعود إلى فترة التعلّم هذه، ويعكس بداية الانشغال بموضوعة الشرق أو بالاستشراق، والذي يكشف في الأصل عن فكرة مثالية وزائفة عن الشرق. هذا إلى جانب المشاهد المتأنقة للقرن الثامن عشر مثل لوحة "إيل كونتينو" التي تنتمي إلى نفس الفترة.
لحسن حظ فورتوني أنه أرسل عام 1860 من قبل المجلس النيابي لبرشلونة لتغطية حرب تطوان، حينئذ سيعرف تحوّلاً جذرياً في الطريقة التي اعتمدها في الرسم، بل وأتاح له ذلك مزيداً من التحرّر في رؤيته للشرق، إذ لم تعد أعماله تستجيب للتخيلات المحمومة، ولكن لتأمل المناظر الطبيعية والمشاهد الواقعية.
وقد أنجز خلال رحلته للمغرب لوحات مثل "مشهد تطوان" و"معركة واد راس" الشهيرة التي توجد ضمن الأعمال المعروضة، ويمكن أن نشير إلى أحد الأعمال الأساسية الغائبة وهي اللوحة المعنونة بـ"معركة تطوان". لقد استغل الفنان وجوده في المغرب لرسم العديد من المائيات عن جوانب من الحياة المغربية، وهو ما سيكشف تقريباً عن "ساحر" في هذا الأسلوب من الرسم.
أثرُ تلك الرحلة المغربية الأولى سيطبع جميع أعماله في ما بعد، وخصوصاً لوحات مثل "فنتازيا عربية". إن هذا العبور يذكرنا بالرسامين الألمان لبداية القرن العشرين مثل بول كلي، وفرانز مارك، وأوغست ماك، اكتشاف لأثر الضوء في تألقه على الألوان والأشكال المرتعشة.
عاد فورتوني إلى روما بأسلوبه الجديد وأحدث رجة، وقد ضمنت الرؤية التجارية لأدولف غوبيل، تاجر الفن، لعمله انتشاراً عبر العرض في الأروقة، وهي علاقة جلبت لفورتوني بعض الطمأنية المادية، ولكن أيضاً تخمة واضحة من طلبات غوبيل التي لا تنتهي وستتواصل حتى أواخر حياته، وعلى الأخص الصور المُسْتعرِبة التي بلورها خلال إقامته في قصر الحمراء في غرناطة.
كان الفنان الإسباني يرغب في التعامل مع مواضيع "راهنة"، حسب اعترافاته الشخصية، وبين 1867 و1868 سافر إلى مدريد مكرساً سنة كاملة لدراسة أعمال كبار الفنانين في متحف البرادو، ونسخ ما يهمُّ مساره منها مثل أعمال فيلاسكيث، وريبيرا، والغريكو، وغويا، الذين يمتلكون القدرة الخارقة على التقاط التفاصيل الدقيقة بحساسية وإبداعية فرشاتهم، وسيكون لهذا كبير الأثر على التطورات الفنية في مسيرته. المستوى الراقي لأعمال فورتوني وإن كان ينجلي بوضوح في أعماله المعروضة حالياً في البرادو؛ إلا أنه في راهنه كان قد تم تجاوزه مباشرة بعد موته، وإن كان تأثير بعض أعماله قد استمر في إيطاليا وفرنسا مع العديد من الفنانين، فالمنحى الشكلي لهذه الأعمال وغياب الحافز الفكري سيحدد بشكل حاسم أفوله الفني.
ومع ذلك، ولتوضيح وضعية فورتوني في سياق الحركة الفنية في فترة رحيله، يجدر التذكير بأن الفن التشكيلي عرف حركات جديدة مثل الرمزية وعلى الأخص الانطباعية، ورغم أن مبادئها التصويرية مختلفة، فإن أعمال المرحلة الأخيرة لفورتوني، مثل لوحة "مغاربة يتسلقون القمة" (1872) لم تكن بعيدة عن هذا السياق، والأمر نفسه ينسحب على لوحة "عري في الشاطئ" التي ربما كانت مصدر إلهام لأعمال خواكين سورويا الشهيرة.