لم يكن لدولة "إسرائيل" أن تُعمّر هذه السنين لولا الضعف والخورُ الذي تحياهُ الأمّة العربية والإسلامية، وليست قضيّة فلسطينُ إلا مظهرًا من مظاهر العجز والهزيمة الدائمة التي تحياها الأمّة. ولعلّ احترام المقدّسات وغلاء الدماء أصدقُ معيارٍ يمكنُ به قياسُ عزّ الأمم وذلّها، وبالنظر إلى واقعنا سنرى كم بلغ هوان مقدّساتنا ورموزنا، أما دماؤنا، فلم تُصبح ماءً، لكنّها أضحت أرخص منه! بينما غيرُنا من الأمم يُسجنُ من يتعرّض لأحداثٍ تاريخيّة تخصّه بجُرم معاداة الساميّة، ويقفُ العالمُ كلّه على رجلٍ من أجل جنديّ واحدٍ مقاتلٍ من جنوده!
لذلك كانت فلسطين وما زالت التجلّي الأعظم لضعف الأمّة وهوانها، إذ جمعت قضيّتُها الدلالتين: إهانة المقدّسات، واستباحةَ الدّم!
ما سبقَ يُفسّر سبب حضور فلسطين الواضح في شعارات الشباب العربيّ الثائر، على اختلاف مشاربه الثقافية والفكريّة، فتعالت الهُتافات منذ اللحظة الأولى: "الشعب يريد تحرير فلسطين"! ولعلّ انطلاقة الربيع العربيّ من تونس؛ المعروفة بحرارة الانتماء للقضية الفلسطينية، والارتباط التاريخيّ بها، دورٌ في ذلك، كما أنّ صعود الإسلاميين عمومًا، وفي مصر خصوصًا، ساهم في ذلك أيضًا إذ تُشكّل فلسطين جزءًا مهمًا وأساسيًا من ثقافتهم التعبويّة.
وكما تصاعدت الأحلامُ، وخفقت القلوب لفلسطين مع رايات الثّورة، وتفاءل محبّو فلسطين بدنوّ أجل "إسرائيل"، تبدّدت من جديدٍ الأحلامُ والآمالُ مع نجاحات الثورة المضادّة، وانتصاراتها المتوالية في معارها ضدّ الرّبيع! وعادت فلسطينُ إلى حالها الأولى، بل إلى أسوأ منها!
ففي مصر: نظامٌ لم يستطع الصهاينة أنفسهم إخفاء استغرابهم من صدق تعاونه، وعمق تحالفه، لا يدّخرُ جهدًا في خنق المُحاصَرين، وإعانة المحتلّين ومظاهرتهم!
وفي سورية: نظامٌ أراد فلسطين سكينًا يذبحُ بها أطفال شعبه ونساءه، فلمّا أبت عليه فلسطينُ عاداها هو، وفتر حلفاؤُه (إيران وحزبُ الله) عن فلسطين، وضاعت بوصلتُهم في معركةٍ عبثيّةٍ خاسرة.
وفي اليمن: يهتفُ المُسلَّح "الموتُ لإسرائيل"، بينما يوزّع الموتَ الحقيقيّ على أبناء شعبه!
وليبيا تنغمسُ بصمتٍ في حربٍ أهليّةٍ، هي جزءٌ من الحملة الدكتاتوريّة الشاملة لاستئصال أشواق الحرّية من قلوب أبناء الأمة.
حتى في تونس التي لا تزالُ ثورتُها تصارعُ أمواج فلول "بن علي"، خاف الإسلاميون من مغبّة تجريم التّطبيع وعواقبه؛ فصوّتوا ضدّ قانونٍ يجرّمه! وبذلك ترى البلاد التي لم تنجح فيها الثورة المضادّة –حتى الآن- في موقفٍ غير حميدٍ من فلسطين أيضًا!
ما من بلدٍ كانت ستستفيدُ من تحررّ الأمّة، مثل فلسطين، ولذلك ما من أحدٍ خسر باغتيال الرّبيع كما خسرت، لقد استيقن أعداءُ حرّية الأمّة ما لفلسطين وقضيتها من خطورةٍ على عروشهم ومصالحهم، وأنّ فلسطين طالما بقيت حيّة فإنّها ستكونُ دعوةً مفتوحةً دائمةً للحرّية، ودافعًا كبيرًا لطلبها، ونموذجًا حاضرًا لمقاومة الطغيان بصبرٍ وجلدٍ ونفسٍ طويل.
لذلك تظاهرت مساعي طواغيت الأمّة وتواترت واشتدّت لتصفية قضيّة فلسطين، والقضاء الكامل على مقاومتها، وما المواقفُ المتواطئة والمتحالفة مع الاحتلال إبّان حرب غزّة إلا إشارةٌ وعلامة، على أنّ هؤلاء الحُكّام أفقدهم خوفُهم على كراسيّهم آخر ذرّة شرفٍ لديهم.
كان الأمرُ ولم يزل صفقةً دنيئةً أقامتها هذه الأنظمة مع الاستعمار، خلاصتها: أن يحفظوا مصالحه في بلادنا، وأن يضمن لهم عروشهم! وليست "إسرائيل" إلا كُبرى مصالح الاستعمار التي ينبغي على الأنظمة العربيّة حراستُها وحمايتُها من الشعوب المقهورة!
ولعلّه بإمكان مجاذيب "نظريّة المؤامرة" من الحاقدين على الثورات العربية، الناظرين إليها على أنها مؤامرةٌ أميركية، على المنطقة المزدهرة، وأنظمة الممانعة والشرف والبطولة، أن يضيفوا موضوع هذه المقالة إلى رصيدهم في تجريم الرّبيع، والتمثيل به بعد ذبحه، غير أنّ العاقل المتأمّل يرى بوضوحٍ أنّه إذا كانت خسارةُ فلسطين باغتيال الرّبيع عظيمةً بهذا القدر، فكم كانت محظوظةً يا تُرى لو أنّه نجح!
لم يُغلق البابُ، ولم ينته السؤال، ولم ينقضِ الأمل، والأمرُ كلّه بيد من يُحيي العظام وهي رميم!