كان عام 2008 مهماً في التاريخ المصري الحديث. ففي شهر إبريل/ نيسان من ذلك العام، انطلقت تظاهرات شعبية ضد الغلاء في أكثر من محافظة، واجهتها قوات الأمن المحلية (كالعادة) وبأوامر من رئيس الجمهورية وقتها المخلوع محمد حسني مبارك بالعنف، ما أدى إلى سقوط ثلاثة قتلى.
هذا حدث مصريّ سياسي وشعبي مهم. لكن في تلك السنة ستقودنا الذاكرة إلى حدث آخر، على مسرح نادي ضباط الحرس الجمهوري في القاهرة.
هناك ستقف الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي وتغنّي لمبارك ونجله جمال، والقائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي المشير حسين طنطاوي، وغيرهم من الضابط المصريين، "أحلف بسماها بترابها" أغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة. ثمّ في نهاية الحفل، تتوجه بفستانها الأبيض الذي يليق بلقب "فنانة السلام"، وتنحني أمام مبارك وتصافحه، موجهة له كلاماً ذا نبرة راجفة، شاكرة إياه على كل ما قام به من أجل بلدها لبنان.
بدت خطوة ماجدة الرومي تلقائية وطبيعية، ولا تحتمل الكثير من الجدل. هكذا كان يدار العالم العربي، بسياسييه، وفنانيه وقسم كبير من مثقفيه وصحافييه. الانحناءة البيضاء أمام حسني مبارك تختصر تلك المرحلة العربية، وتختصر علاقة لا تحتمل التعقيد بين الفنان "القدير" وبين الحاكم "القدير" أيضاً بطبيعة الحال.
لم تكن ماجدة الرومي يوماً "مناضلة"، لا بصوتها ولا بمواقفها. فلم يسجّل لها في الإعلام أو حتى في الرواية الشعبية بين معجبيها أيّ موقف صداميّ مع أي سلطة. لكن لعلّ أداءها لبعض قصائد محمود درويش (حاصر حصارك)، أو تكريسها مغنية للحرية في فترة الحرب الأهلية ثم السلام الهشّ، مع مجموعة من الأغاني الوطنية التي ترفّعت عن الاصطفافات لصالح "الوطن" بمفهومه الضبابي العام، جعلها نسخة لامعة وإن أقلّ إبداعاً أو تفرداً أو موهبة من فيروز.
تتراكم في الأرشيف تصريحات الرومي المتشابهة:
"تونس يا صديقتي يا حبيبتي يا رفيقة دربي عليك وعلى سيادة رئيسك وابنك البار وعلى شعبك الكريم ألف بركة وخير وألف ألف سلام" (موجّهة كلامها للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي عند تكريمها سنة 2010 في تونس).
"جئنا نحييكم شعباً وقيادة ونشدّ على أيديكم، أنتم السالكين دروب النور، المتصدين للعتمة وجيوش الظلام" (في البحرين سنة 2013).
"بكل الوفاء بقلبي وبكل الصدق، بتمنى تبقى الأرض الطيبة عاصمة للخير، وأتمنى يبقى دارها دار العز، وسيوفها سيوف النصر، ويبقى نخيلها مراوح الزمن، تبقى الأبية البهية العربية العزيزة على الله وقلوبنا جميعاً، ويدوم عزكم". (خلال حفلها في العلا السعودية في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2018).
"السيسي رئيس وإنسان صادق ورأيته مرتين، وهذا الوجه يوحي لي الطيبة المصرية والصدق والصلاة (...) أحب الرئيس السيسي بشدة لأنه كان على دراية تامّة بالمؤامرات السياسية التي تحاك ضد مصر والمصريين بل والعالم العربي، ولا أستطيع أن أقول هذا الكلام أمامه حتى لا يتهمني أحد بمجاملته". (خلال مقابلتها مع صحيفة "أخبار اليوم" المصرية يوم الجمعة 1 فبراير/ شباط 2019).
تختار ماجدة الرومي مفرداتها من قاموس واحد. قاموس عربي بطبيعة الحال، وضعته ونقّحته الأنظمة العربية منذ حروب استقلالها، ولم تعدّله حتى اليوم. تعرف جيداً متى تتكلّم، وماذا تقول. لا هفوات ولا سقطات في كلامها، ولا تراجع عن أي حرف نطقته أمام كل الأنظمة التي غنّت لها. هي التي تعلم أنها ستنجو في كل مرّة. من يمكن أن ينتقد صاحبة "قوم تحدّى الظلم تمرّد"؟ من يمكن أن يتّهم من غنّت "سيدي الرئيس، أتسمع الأحرار حين يسألون، أمرّتين الشهداء يُقتلون؟" بالانحياز لـ"السيد الرئيس" في وجه الشعوب؟
لكن قبل كل ذلك، قبل تحوّلها إلى أيقونة فنية لبنانية، وقبل تكريسها لمجموعة من الأسباب المجهولة أو الغامضة "فنانة للسلام"، وقبل وقوفها على مسارح الأنظمة العربية كافة، كان عام 1975 السنة الرسمية لانطلاق الحرب الأهلية اللبنانية، وسنة ظهور ماجدة الرومي الاحترافي الأول. بينما كان صوت الرصاص والقنابل يملأ سماء بيروت، جاء صوتها الشاب والجميل، مغنية "عمبحلمك يا حلم يا لبنان، إنت الهدايا بالعلب" (كلمات سعيد عقل وألحان إلياس الرحباني). ذاب اللبنانيون أمام صوتها. في الملاجئ، وعلى جبهات القتال، كان الجميع يردد الأغنية.
حجزت ماجدة الرومي مكاناً محبباً لنفسها في أذهان اللبنانيين الباحثين عن السلام، والباحثين عن وطن يشبه "الهدايا بالعلب". انتهت الحرب، وحملت الرومي رسالة "السلام" معها إلى عهد الطائف الذي تلى الحرب. وتدريجياً، وبينما كانت فيروز تنسحب من مشهد الغناء للحرية ومسرحيات "الوطن" و"الوطنية"، احتلّت ماجدة الرومي الساحة، متقاسمة جزءاً صغيراً مع جوليا بطرس.
منتصف التسعينيات، ومع إصدار ألبوم "ابحث عني" الذي تضمّن أغنيتي "قوم اتحدى" و"سقط القناع/ حاصر حصارك"، بلغت الرومي ذروة حضورها "الوطني" في الإعلام والمجتمع، وبات انتقادها ضرباً من الجنون الخالص، وأي نقد، خجولاً كان أو فاقعاً، تقابله ردود جاهزة عن التحامل، أو الغيرة أو البحث عن الشهرة على حساب "الماجدة".
وبدأت جولات ماجدة الرومي على مسارح العالم العربي، مجمّعة نياشين وميداليات تكريم من كل الرؤساء تقريباً. فالرؤساء أيضاً يحبون الغناء للحرية، ويصفّقون لمن يغنيها.
44 عاماً هو عمر المسيرة المهنية الفنية لماجدة الرومي. عمرها من عمر الحرب الأهلية، وليس صدفة أن تنطبق عليها وعلى مسيرتها ما ينطبق على مسارات الحرب اللبنانية المتشعّبة: من منافقة الأقوياء إلى التصفيق للقتلة، ثمّ تكريسهم زعماء وطنيين. هذا ما تفعله الرومي في لبنان وعلى طول العالم العربي. تصلّي لعبد الفتاح السيسي، وتترجف أمام حكّام السعودية، وتبتسم بخجل أمام زين العابدين بن علي. هذا ما يقوله تاريخها، وإن كانت الموسيقى التصويرية لهذا التاريخ، كلمات وألحاناً متراكمة عن الحرية والثورة والكرامة.
اقــرأ أيضاً
هذا حدث مصريّ سياسي وشعبي مهم. لكن في تلك السنة ستقودنا الذاكرة إلى حدث آخر، على مسرح نادي ضباط الحرس الجمهوري في القاهرة.
هناك ستقف الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي وتغنّي لمبارك ونجله جمال، والقائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي المشير حسين طنطاوي، وغيرهم من الضابط المصريين، "أحلف بسماها بترابها" أغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة. ثمّ في نهاية الحفل، تتوجه بفستانها الأبيض الذي يليق بلقب "فنانة السلام"، وتنحني أمام مبارك وتصافحه، موجهة له كلاماً ذا نبرة راجفة، شاكرة إياه على كل ما قام به من أجل بلدها لبنان.
بدت خطوة ماجدة الرومي تلقائية وطبيعية، ولا تحتمل الكثير من الجدل. هكذا كان يدار العالم العربي، بسياسييه، وفنانيه وقسم كبير من مثقفيه وصحافييه. الانحناءة البيضاء أمام حسني مبارك تختصر تلك المرحلة العربية، وتختصر علاقة لا تحتمل التعقيد بين الفنان "القدير" وبين الحاكم "القدير" أيضاً بطبيعة الحال.
لم تكن ماجدة الرومي يوماً "مناضلة"، لا بصوتها ولا بمواقفها. فلم يسجّل لها في الإعلام أو حتى في الرواية الشعبية بين معجبيها أيّ موقف صداميّ مع أي سلطة. لكن لعلّ أداءها لبعض قصائد محمود درويش (حاصر حصارك)، أو تكريسها مغنية للحرية في فترة الحرب الأهلية ثم السلام الهشّ، مع مجموعة من الأغاني الوطنية التي ترفّعت عن الاصطفافات لصالح "الوطن" بمفهومه الضبابي العام، جعلها نسخة لامعة وإن أقلّ إبداعاً أو تفرداً أو موهبة من فيروز.
تتراكم في الأرشيف تصريحات الرومي المتشابهة:
"تونس يا صديقتي يا حبيبتي يا رفيقة دربي عليك وعلى سيادة رئيسك وابنك البار وعلى شعبك الكريم ألف بركة وخير وألف ألف سلام" (موجّهة كلامها للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي عند تكريمها سنة 2010 في تونس).
"جئنا نحييكم شعباً وقيادة ونشدّ على أيديكم، أنتم السالكين دروب النور، المتصدين للعتمة وجيوش الظلام" (في البحرين سنة 2013).
"بكل الوفاء بقلبي وبكل الصدق، بتمنى تبقى الأرض الطيبة عاصمة للخير، وأتمنى يبقى دارها دار العز، وسيوفها سيوف النصر، ويبقى نخيلها مراوح الزمن، تبقى الأبية البهية العربية العزيزة على الله وقلوبنا جميعاً، ويدوم عزكم". (خلال حفلها في العلا السعودية في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2018).
"السيسي رئيس وإنسان صادق ورأيته مرتين، وهذا الوجه يوحي لي الطيبة المصرية والصدق والصلاة (...) أحب الرئيس السيسي بشدة لأنه كان على دراية تامّة بالمؤامرات السياسية التي تحاك ضد مصر والمصريين بل والعالم العربي، ولا أستطيع أن أقول هذا الكلام أمامه حتى لا يتهمني أحد بمجاملته". (خلال مقابلتها مع صحيفة "أخبار اليوم" المصرية يوم الجمعة 1 فبراير/ شباط 2019).
تختار ماجدة الرومي مفرداتها من قاموس واحد. قاموس عربي بطبيعة الحال، وضعته ونقّحته الأنظمة العربية منذ حروب استقلالها، ولم تعدّله حتى اليوم. تعرف جيداً متى تتكلّم، وماذا تقول. لا هفوات ولا سقطات في كلامها، ولا تراجع عن أي حرف نطقته أمام كل الأنظمة التي غنّت لها. هي التي تعلم أنها ستنجو في كل مرّة. من يمكن أن ينتقد صاحبة "قوم تحدّى الظلم تمرّد"؟ من يمكن أن يتّهم من غنّت "سيدي الرئيس، أتسمع الأحرار حين يسألون، أمرّتين الشهداء يُقتلون؟" بالانحياز لـ"السيد الرئيس" في وجه الشعوب؟
لكن قبل كل ذلك، قبل تحوّلها إلى أيقونة فنية لبنانية، وقبل تكريسها لمجموعة من الأسباب المجهولة أو الغامضة "فنانة للسلام"، وقبل وقوفها على مسارح الأنظمة العربية كافة، كان عام 1975 السنة الرسمية لانطلاق الحرب الأهلية اللبنانية، وسنة ظهور ماجدة الرومي الاحترافي الأول. بينما كان صوت الرصاص والقنابل يملأ سماء بيروت، جاء صوتها الشاب والجميل، مغنية "عمبحلمك يا حلم يا لبنان، إنت الهدايا بالعلب" (كلمات سعيد عقل وألحان إلياس الرحباني). ذاب اللبنانيون أمام صوتها. في الملاجئ، وعلى جبهات القتال، كان الجميع يردد الأغنية.
حجزت ماجدة الرومي مكاناً محبباً لنفسها في أذهان اللبنانيين الباحثين عن السلام، والباحثين عن وطن يشبه "الهدايا بالعلب". انتهت الحرب، وحملت الرومي رسالة "السلام" معها إلى عهد الطائف الذي تلى الحرب. وتدريجياً، وبينما كانت فيروز تنسحب من مشهد الغناء للحرية ومسرحيات "الوطن" و"الوطنية"، احتلّت ماجدة الرومي الساحة، متقاسمة جزءاً صغيراً مع جوليا بطرس.
منتصف التسعينيات، ومع إصدار ألبوم "ابحث عني" الذي تضمّن أغنيتي "قوم اتحدى" و"سقط القناع/ حاصر حصارك"، بلغت الرومي ذروة حضورها "الوطني" في الإعلام والمجتمع، وبات انتقادها ضرباً من الجنون الخالص، وأي نقد، خجولاً كان أو فاقعاً، تقابله ردود جاهزة عن التحامل، أو الغيرة أو البحث عن الشهرة على حساب "الماجدة".
وبدأت جولات ماجدة الرومي على مسارح العالم العربي، مجمّعة نياشين وميداليات تكريم من كل الرؤساء تقريباً. فالرؤساء أيضاً يحبون الغناء للحرية، ويصفّقون لمن يغنيها.
44 عاماً هو عمر المسيرة المهنية الفنية لماجدة الرومي. عمرها من عمر الحرب الأهلية، وليس صدفة أن تنطبق عليها وعلى مسيرتها ما ينطبق على مسارات الحرب اللبنانية المتشعّبة: من منافقة الأقوياء إلى التصفيق للقتلة، ثمّ تكريسهم زعماء وطنيين. هذا ما تفعله الرومي في لبنان وعلى طول العالم العربي. تصلّي لعبد الفتاح السيسي، وتترجف أمام حكّام السعودية، وتبتسم بخجل أمام زين العابدين بن علي. هذا ما يقوله تاريخها، وإن كانت الموسيقى التصويرية لهذا التاريخ، كلمات وألحاناً متراكمة عن الحرية والثورة والكرامة.