مائدة الأسلحة

16 يونيو 2015
+ الخط -
السيارة تقطع شوارع حي "دير بعلبة" الضخمة والمظلمة، وهو يجلس إلى جانب السائق، لا تبدو سوى عينيه من وراء الكوفية، بندقيته بين رجليه، يمرّر أصابعه عليها كمن يهرش رأسه محاولاً التذكر تارة، وتارة كمن يلمس كفَّ الحبيبة. وصلتِ السيارة إلى منزله الذي لا يفصله عن حي "العباسية" الموالي سوى شارعين، دخل إلى الغرفة، عيناه ليست نفسهما، فهما لم تعودا تلمعان كما كانتا في السيارة، لكنه كان هوَ، فـ"الكلاشينكوف" لم تزل في حضنه، بينما يتناول كأس الشاي من كف زوجته، "أبو عُدي" من عشيرة بني خالد، يعمل في رعي الأغنام والبناء نهاراً، ويحمي الحَي ليلاً، سنختبئ عنده أياماً، ريثما تهدأ الأمور في حي "البياضة"، ففي الشهر الأخير من عام 2011، ما زال البدو يعرفون كيف يديرون أمورهم على الرغم من الحرب.
صباحاً كان يلمِّع بندقيته، يمسكها بشكل عمودي ويمسحها ببطء سانداً إياها على ركبته، تحيط به مخازن رصاص وثلاثة مسدسات :"لم نتسلح في الثورة، فنحن بدو، نحتفظ بالسلاح في السلم، ونحمله في الحرب، صغيرنا قبل كبيرنا". تابع :"مو بس إذا جا النظام، إذا جت جيوش العالم ما أسلمك إلا على جثتي، هذي عاداتنا". كان أبناء "دير بعلبة" يشاركون في أكثر الجنازات بحمص ويحمونها من غدر قوات الأمن، كما كانوا يؤمِّنون المطلوبين الهاربين من مطاردة الأمن أثناء المظاهرات، ففي الحادي والعشرين من شهر مايو/أيار 2011، شيّع المئات من الحمامصة شهداءَ جمعة "آزادي"، ثم خرجوا من المقبرة متظاهرين في "شارع الستين"، فتح الأمن الرصاص عليهم وقتل عشرين مدنياً، حينها، لجأ المتظاهرون إلى حي "دير بعلبة" المجاور، فحماهم أبناؤه بأسلحتهم، وداووا جرحاهم في منازلهم.

اقرأ أيضاً: سورية عنقاء التاريخ

غطى "أبو عُدي" بندقيته بالوسادة: "ربما تحتاجونها" قال قبل أن يغادر. حثثته على أن يأخذها معه فهو مَن سيواجه الخطر، كما أننا لا نجيد استخدام السلاح، ضحك وأخبرني أنه يملك غيرها. زحف ابنه ذو العامين، ثم أدخل يده تحت الوسادة حتى وصلت إلى سبطانة البندقية، نظرْنا مذعورين إلى الأب، لكنه لم يبالِ، فهي في "وضع الأمان"، كل ما فعله أن ودَّع ابنه والبندقية بنظرة حنان واحدة.
أصوات الرصاص لم تنقطع في ذلك الصباح الشاحب، بعد ساعة عاد "أبو عُدي"، "قوموا بسرعة، الجيش عم يحاول يدخل دير بعلبة"، ركضنا كالمجانين دون أن نرتدي ملابس الخروج، يتقدمنا "أبو عدي" بسلاحه، في منتصف الشارع سور حديدي يمتد على طوله، الرصاص يصطدم به ويعبر من بين أرجلنا، لم نكن نعرف وجهتنا، وفجأة فُتح باب إحدى المنازل في الجهة المقابلة، نادتنا سيدة لندخل، أمضينا النهار في ذلك البيت، كان الأمر عبارة عن اشتباك عند "المدينة الجامعية"، ظنه "أبو عدي" مداهمة، وقبل أن نغادر، قال صاحب البيت إنه مستعد إلى أن يبيع ذهب زوجته مقابل أن يشتري سلاحاً، ففي هذه الحرب، أصبحت الحياة بلا سلاح أصعب من الموت.
بعد عودتي من "دير بعلبة" إلى "البياضة"، فتحتُ باب غرفة الضيف لأطلب شيئاً من صاحب البيت الذي أقيم عنده. كانت الغرفة مضاءة بشمعة، وفي وسطها أسلحة مفكّكة، يتحلّق حولها ثلاثة رجال. ناداني "عمار" الذي كان أكثرهم خبرة بالسلاح: "تفضل"، وكأنه يدعوني إلى مائدة. تحدّثوا ساعتين عن الأسلحة، عن جودتها ومصادرها، المسدسات وعياراتها، أسمائها الشعبية، القناصة: "أم عين" أو "عينين"، والمسدس "أبو ستة عيارات". يبدو الحديث عن السلاح مرعباً في الظلام، لكنه مسَلٍّ لمن أدمن عليه. في تلك الليلة، تجوّلت مع "عمار"، متجنبين السير في الحارات المكشوفة لقناصة النظام. سألته عن الغاية من هذه الأسلحة اليدوية في مواجهة القصف. أجابني "إنها وسيلة لتخويف النظام وليس للنصر، فالغرقى يتعلّقون ولو بقشَّة". ثم سرد قصته في فرع المخابرات الجوية بدمشق، كان العناصر يهددونه بأنهم سيغتصبون أمّه وأخواته، ويغتصبونه أيضاً: "لذلك حملت السلاح بعد أن خرجتُ من السجن". ليس في سجون الديكتاتورية العربية وحدها، بل في سائر الأنظمة المستبدّة، وفي كافة الحروب، يصبح العضو الذكري سلاحاً للتهديد كما أنه وسيلة للتعبير عن الحبّ واللذة. ربما هو السبب الذي جعل تصميم الأسلحة شبيهاً بشكل القضيب.

اقرأ أيضاً: وصولُ غودو إلى سورية

مع انتقال الثورة السورية من سلمية إلى مسلّحة خلال شهر سبتمبر/ أيلول 2011، صار الحديث عن السلاح محط اهتمام كثير من النشطاء، وذلك بغاية حماية المظاهرات السلمية. لكن مع الوقت، تحوّلت هذه الغاية إلى عشق للمغامرات والتباهي. فالبندقية شيئاً فشيئاً تتجاوز مهمتها لتصبح حبيبة وصديقة وزوجة، بل تصير قائدة لنزوات صاحبها، لذلك: "لا ينبغي أبداً الاعتماد على من عرف لذّة السلاح"، كما قالت المرأة لزوجها المصاب في إحدى الحروب القبلية بأفغانستان*، ولذلك أيضاً، كان على النساء أن يقدن المعارك بدلاً من الرجال، ربما كنا سنشهد قتالاً أقل ضراوة وأكثر رحمة.

* العبارة وردت في رواية الكاتب عتيق رحيمي "حجر الصبر".
(شاعر سوري)
المساهمون