مؤلّفات كلاسيكية مُعاصرة: موسيقى ترمي إلى نهاية العالم

19 يناير 2020
تورّط المؤلفون بمعالجات على حساب اللحن وانبهار بالغرائبية (Getty)
+ الخط -
بلغت الاتجاهات الفردية في الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة، حداً ترك التباساً في تحديد أنساق أو تيارات موسيقية موحدة. هذا ما أثاره الموسيقي الأميركي المعاصر، فيليب غلاس، في لقاء مع "الغارديان" البريطانية، حين رفض انتسابه إلى الأسلوب المينمالي الذي هيمن خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ذلك أنه أسلوب، بتعبيره، انتهى منذ ثلاثة عقود. وبصورة عامة يبدو المشهد الموسيقي المعاصر متشككاً واسترجاعياً وحنينياً، وربما فارغاً من الابتكار.

في مسارات متعددة، يتشكّل نسيج موسيقي أصبحت الغرائبية بالنسبة له غاية، وهناك شكل كولاجي تتجاور فيه أساليب وربما ألحان سابقة. مثلاً، عند الاستماع إلى خماسية غلاس الخامسة، يتبادر لنا أنه لحن لبارتوك، وربما لبيتهوفن أو شوبرت. تتراوح الكثير من الأعمال الموسيقية في هذه الأنساق التجميعية لأفكار سابقة، أو إبداعات موجودة، بوضوح متفاوت، إلا أن بعضها يعبّر عن حرفية أعلى، وكأنه جرى صهرها وإعادة بنائها أو تصنيعها مع تحسينات شكلية.

يعتبر الموسيقي الإستوني أرفو بارت، من أكثر الموسيقيين الكلاسيكيين الأحياء شعبية. وُلدت هالة بارت الموسيقية منذ خروجه من الاتحاد السوفيتي عام 1980، إذ مثّل ذلك احتفاءً غربياً في مواجهة النظام الشيوعي. ترك بارت شكلاً عاماً ستفضي إليه التحولات الموسيقية، بعيداً عن التعقيد، لكن المنحى الذي ستسلكه الموسيقى، وكان بارت أحد مراجعه؛ أخذ طابعاً حنينياً أو ماضوياً. لكن أعماله الأكثر انتشاراً تعود إلى نهاية السبعينيات، "فرتراس" و"تابولا راسا" و"شبيغل إم شبيغل". هذا الأمر تناوله غلاس بتبرّم، بما أن أعماله المبكرة في السبعينيات تستأثر باهتمام جمهوره على حساب الأعمال المتأخرة. فهل للأمر علاقة بشيخوخة مبكرة تعاني منها الأشكال الإبداعية الراهنة، بما فيها الموسيقى؟

يرى مارك فيشر أن الموسيقى هي المكان الذي تظهر فيه الأعراض الرئيسية للتوعك الثقافي. ومهدت الموسيقى لأعراض الماضي، فعلى خلاف القرن العشرين المتطلع للمستقبل، ينتمي القرن الحادي والعشرون إلى الماضي، وهو ما تتحدث عنه الموسيقى بعيداً عن روح الابتكار.

ولعلّ أزمة مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية الحاليين تعود إلى عدم الاعتراف بهم كامتداد للموسيقى الكلاسيكية، منذ فيفالدي وحتى سيباليوس. فالأشكال الموسيقية التي ألفها بيتهوفن وآخرون، تبدو لكثيرين أشكالاً انقرضت منذ القرن الماضي، وهو ما أثاره غلاس حين أشار إلى أن مشكلته تكمن في أن الناس لا يصدقون بأنه يؤلف سيمفونيات.

لكن ما زالت الموسيقى الكلاسيكية متواصلة، وإن تراخى الاهتمام بها مقارنة بما كانت عليه حتى في القرن العشرين. هذا العام حازت أوبرا "دروس في الحب والعنف" للبريطاني جورج بينيامين جائزة "غرامي" كأفضل تسجيل أوبرا. لكن معظم الجوائز ذهبت لأعمال كلاسيكية قديمة. ولدى بينيامين أسلوب يقتفي أثر شونبرغ وبيرغ، ومؤسسي الموسيقى اللامقامية. كما يستعير أثر الموسيقى الهندية في إيقاعه لمنمنماته على الكمان. أما مؤلفه الأوبرالي الأخير؛ فيتسم بالتعارضات اللحنية والتقطعات في احتفال لانغمي، وإن نالت كما عمله السابق، "كُتب على الجلد"، مديحاً في "نيويورك ريفيو"، تظل جزءاً من المشهد المرتبك مع ما فيها من جهد بنيوي تميل إلى وضع مسافة بين الحدة وغلظة الأصوات في صيغ تملأها التنافرات اللحنية. إلا أن الصيغة "اللامقامية" تبدو كما لو استنفدت حسّها الطليعي في القرن الماضي. في كونشرتو البيانو Duet، يعمل على تخفيض الأوركسترا مقابل تضخيم صوت البيانو، هناك دائماً معالجات صوتية على حساب اللحن، وانبهار عام بالغرائبية.

يبقى أرفو بارت الأكثر حضوراً بين مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية الأحياء، ويبدو كحلقة وصل بين الحداثة والمرحلة الراهنة. ابتكر أسلوبه الخاص بالاعتماد على مقامية شونبرغ مع الاعتماد على صيغ لحنية بسيطة تعتمد على سلسلة من التوافقات، ليضفي لاحقاً أسلوباً جرسياً على ألحانه، يقوم على ثلاث نوتات، الأرجح أنها ترمز للثالوث المسيحي. وتمتاز موسيقاه ببعد طنيني يضفيها التكرار اللحني والامتداد اللحني مع الإيقاع المتمهل في عملية تسترجع العصور المسيحية القديمة ضمن الموسيقى، إضافة إلى تقشف يفرض عليه حساً صوفياً.

لا يمكن النظر إلى المشهد الموسيقي من دون وجود استثناءات. في واحدة من أجمل أعمال العقدين الأخيرين، للموسيقي الدنماركي هانس إبراهمسين، التي تحمل عنوان "دعني أخبرك"، تتخذ الأغاني المصاحبة للأوركسترا صوتاً جليدياً من خلال السوبرانو مع تماثلات معقدة، في تعارض صوتي يتخلل فيها غناء السوبرانو صوت الباصون الغليظ في تنافر مدو. يتخذ إبراهمسين شكلاً أصولياً في توظيف الصوت الجليدي "الشيني"، كما لو أنه استدعاء للروح الجرمانية، يبدو الصوت بعصريته أيضا ذا ملمح بدائي أو قروسطي. يتقاطع أسلوب إبراهمسين مع بيرت من حيث اقتفاء أساليب لحنية أكثر بساطة، والتكرار المستمر، وإن بمعالجات صوتية وتوليفات هارمونية مختلفة.

يواجه الإبداع الموسيقي حالة تراجع في طموحه الأسلوبي، وكأنه اكتفى بما يمتلكه من أساليب وتطوير بعض مفاهيمها، أو الاتكاء عليها كلياً، فلم تعد هناك روح مأخوذة بالابتكار أو مهمومة بالطليعي والإبداعي؛ إذ يسود الخمول الثقافي، وهو ما اعتبره مارك فيشر نتيجة لتسيد الرأسمالية التي كرست مفهوم نهاية العالم. وفي سياق عام، يبدو الموسيقيون المعاصرون حرفيين أكثر من كونهم خلاقين أو مبتكرين، إذ إنهم يمتلكون الكثير من المفاهيم الموسيقية والأساليب. وانحسر المستقبل لمصلحة الماضي الذي أحال الابتكار إلى شيوع الاستخدامات المتفاوتة للأساليب. وانتهت الموسيقى الكلاسيكية إلى موت سريري، واختفت معالمها الجامحة التي اضطرمت فيها ربات الفنون الفاتنة، منذ باخ وحتى شوستاكوفيتش.

لذا، راهنت الموسيقى المعاصرة على سمات أركيولوجية، إذ بعودتها إلى الماضي، راحت تنبش المدافن القديمة وتستعيدها في صور الأحياء، فيتجاور النغمي باللانغمي. وتعود الرومانتيكية الجديدة بمجاورة بعض أساليب شونبرغ، أو ملامح باروكية. تستفتح موسيقى جوني تالبوت "أليس في بلاد العجائب" تلك الروح السحرية في باليه أقل فخامة من الباليهات الكلاسيكية المفعمة برومانتيكيتها. يميل العمل الى أصوات شديدة النعومة، مع خليط تصبغه مؤثرات الموسيقى التصويرية في السينما وارتهان، إلى رومانتيكية محمومة وإن كانت من دون إبهار.

على أن بعض الصيغ تستمد حضورها من أجواء أكاديمية أو مدرسية، وهو ما تمليه الأشكال اللحنية للفنلندية كايا سارياها؛ إذ ترتكز على تقاطيع صوتية متسلسلة أكثر من كونها ملامح لحنية. وضمن معملها التجريبي، صاغت أسلوب الموسيقى الطيفية. في افتتاحية عملها الأوبرالي "الحب عن بعد" L'amour de loin، تتصاعد الأصوات في صيغ متنافرة، لكن تعيد إشكالية الموسيقى الحديثة ككل الأعمال السابقة، وهي رتابة خطوطها اللحنية أو إيقاعها. وفي بعض الملامح، تذكرنا أصوات الباصون النزقة ببعض ملامح طقوس الربيع لسترافنسكي، وإن صاغتها هارمونية لانغمية.

هذه التقابلات والخلطات الأسلوبية كسمة للموسيقى المعاصرة يمكن ملاحظتها في عمل "أوكستازيو" للبريطاني توماس أديس، حيث يتجاور صوت التكنو بجانب أوركسترا ضخمة. لتعبر الموسيقى الراقصة عن ملهى ليلي. بمعنى أن هناك شبه قناعة بعدم إمكانية أن تلبي صوت الآلة الموسيقية تعبيراً كافياً لروح العصر.

وبعيداً عن هيمنة اللامقامية أو التجريبية، تسود الرومانتيكية الناعمة على أعمال غلاس وريختر؛ إذ يستعير الأخير الموسيقى بنسق باهت في إعادته صياغة موسيقى فيفالدي، "الفصول الأربعة"، بقالب تجريبي يتضمن أصواتاً كهربائية وموسيقى تجريبية تتكسر فيها الصيغ اللحنية لـ فيفالدي ببذخ زخرفي اتسم به عصر الباروك. لكن المشهد بصورة عامة يبدو كما لو أنه مجرد عملية تكميلية لمسار كلاسيكي يتوجب الحفاظ عليه أو إبقاء مساره، للإبقاء على مؤسسات الفن. هناك من تحدث بأن السينما ربما تكون وريثاً للإبداع الموسيقي.

غير أن الموسيقى يمكن أن تأخذ في السينما بعداً مستقلاً عن دور الأوبرا، إذ إنها تتطلب صيغاً محدودة. هكذا، فإن الإشكالية تعم في مستوى الإبداع، أو الخانات التي تتواشج فيها الفنون بصورة كلية. والقرن الحادي والعشرون يبدو صيغة خائبة لعصر احتدم بالآمال الكبيرة في تصور المستقبل، وتشكّل على إثره ملمحٌ متداعٍ لحقبة باهتة من كل الجوانب.

تميل أوبرا "نهاية اللعبة" المبنية على مسرحية صاموئيل بيكيت للمجري جورجي كورتاج، على أشكال لعبية، بحيث تصبح الأصوات كاريكاتورات عبثية، فيتيح لصوت الباصون والبانتون أنساقاً ضاحكة تنزع إلى تقديس الأصوات القبيحة.

هل للأمر علاقة بما تلى ذلك من تداعيات عالمية انهارت خلالها منظومة المعرفة والفن على حد سواء، وبالتالي الهروب من الابتكار إلى أصوليات أعطت لنفسها الحق في امتلاك الماضي، والتصرف به وأيضاً الاستحواذ عليه. في تلك التصورات، أخذ بارت اللامقامية كأضحية لمدافن الماضي، وجعلها بينجامين مصطلحاً وقودياً للاستهلاك المسرحي. هكذا، تبدو الموسيقى في مواجهة مصير غائم؛ إذ ألقت بها الرأسمالية كعلامة ربحية، أو حالة راهنة لاستمرار منظومتها الحضارية.

المساهمون