مؤسسات التمويل الأصغر في الأردن... مراكمة الديون والمشكلات على الفقراء

06 مايو 2019
مؤسسات التمويل الأصغر تركز على الأردنيات (العربي الجديد)
+ الخط -
نجت ربّة الأسرة الأردنية أم هاني (اسم مستعار)، من عقوبة الحبس بمساعدة جمعية أهلية سددت عنها دفعات القرض المتراكمة عليها لإحدى مؤسسات التمويل، وما تبع ذلك من غرامات تعادل 1% من مجمل الدفعة الشهرية عن كل يوم تأخير، بالإضافة إلى (1.9%) كفائدة شهرية مضافة لكلّ دفعة.

عجزت الأم التي تعيل خمسة أطفال لوحدها عن تسديد قرضها الذي أخذته تحت ضغط كبير من زوجها العام الماضي، ليسدد ديونا تراكمت عليه وتسببت في حبسه لاحقا، فحاولت أن تحصل على مساعدة من صندوق المعونة الوطنية (مؤسسة حكومية ترعى الأسر المحتاجة) لتسيير أحوالها، ولم تفلح، فالتجأت للجمعية التي ساعدتها في تسديد مبلغ 600 دينار (850 دولارا أميركيا) لمؤسسة التمويل، وإنهاء طلب التنفيذ القضائي الصادر بحقها.

خريطة توزيع الغارمات

معاناة أم هاني تعيشها 13 ألف غارمة مدينة لمؤسسات التمويل الأصغر في الأردن، كما كشف وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، رئيس مجلس إدارة صندوق الزكاة عبد الناصر أبو البصل، وسعيا لحلّ مشكلاتهنّ، لجأت الحكومة الأردنية إلى رصد مخصصات من الموازنة لتسديد ديونهن، كما أطلقت مبادرتين لمساعدتهن، إذ قام صندوق الزكاة بتفعيل سهم الغارمين مع بداية عام 2017، وتخصيص مبلغ نصف مليون دينار لعامي 2017 و2018 مناصفة، ورصد المبلغ ذاته لعامي 2019 و2020. وبموجب ذلك، تم إطلاق سراح سيدات من المحكومات بأحكام قطعية، ودفع مبالغ مالية عن غارمات جلّهن من الحالات الإنسانية، وتراكم عليهن الدين وأصبحن مطلوبات للتنفيذ القضائي بأحكام قطعية على مبالغ تراوحت ما بين 200 دينار و1200 دينار، ليصل العدد الإجمالي للغارمات اللواتي سدد عنهن الصندوق إلى 670 سيدة، بحسب مدير العلاقات العامة في صندوق الزكاة الأردني، محمد الرواجفة.

مبادرة أخرى أطلقها ملك الأردن عبد الله الثاني، تحت شعار "أردن النخوة"، في الحادي والعشرين من مارس/آذار الماضي، بالتزامن مع عيد الأم، داعياً إلى جهد وطني لمساعدة الأردنيات الغارمات، إذ تجاوزت قيمة التبرعات ثلاثة ملايين دينار، عقب أسبوعين من إعلان الحملة، وفقًا للرواجفة.

ومن المقرر أن تشمل حملة "أردن النخوة" الغارمات ضمن سقف 1000 دينار، ووفق ما أعلنه الصندوق عبر موقعه أن هذا السقف يشمل نحو 5672 سيدة مطلوبة للتنفيذ القضائي، تنطبق عليهن الأسس والمعايير المعتمدة.

ورغم الأثر الإيجابي لهذه المبادرات، لكن المبالغ المدفوعة لم تحل المشكلة بالكامل، فما زالت قضية آلاف من الغارمات قائمة، إذ بلغ مجموع المستفيدات من المبادرات الثلاث الأخيرة 8242 سيّدة، أي ما نسبته 62% من العدد الكلي للغارمات، ما يدعو إلى الخروج من إطارات "المبادرات الآنية"، كما أطلق عليها الباحث الاجتماعي عبد الله الناصر، مؤكدا أن القضية "أعمق" من ذلك، على حدّ وصفه.


معضلة مؤسسات التمويل الأصغر

بلغت نسبة النساء المقترضات من مؤسسات التمويل الأصغر 73% من مجموع المقترضين في عام 2018 البالغ عددهم 466 ألف مقترض ومقترضة، وفقا لتقرير شبكة تنمية لقطاع التمويل الأصغر للربع الرابع من عام 2018، فيما كانت نسبتهن 77% عام 2017، إذ بلغ عدد المقترضين من الجنسين 417.3 ألف شخص. وفقا لتقرير الشبكة للربع الرابع من عام 2017.

وتوجد في الأردن 14 مؤسسة تمويل فاعلة، بحسب تقرير الاستقرار المالي الصادر عن البنك المركزي الأردني عام 2017، تنضوي تسع منها تحت شبكة مؤسسات التمويل الأصغر في الأردن "تنمية" (ممثل رسمي لمؤسسات التمويل الأصغر في الأردن)، وتعمل على توفير خدمات التمويل للأشخاص الذين لا يتمكنون من الحصول على الخدمات المالية من القطاع المصرفي، وفي الوقت الذي تروّج فيه هذه المؤسسات لرؤيتها بتحقيق غايات اجتماعية عن طريق المساعدة في خلق فرص العمل وتقديم خدمات اجتماعية تحت شعار تمكين المرأة ومساعدة العائلات الفقيرة، فإنها تخلق أزمة اجتماعية واقتصادية لدى المقترضين منها عندما يعجزون عند السداد، وخاصة النساء، بحسب الخبير الاقتصادي مازن مرجي.

ويكشف مرجي لـ"العربي الجديد"، أن الحكومة شجعت نشوء مؤسسات التمويل الأصغر وحولت الجمعيات الخيرية والإنسانية إلى مؤسسات وصناديق تمويل، عقب عقد أول مؤتمر للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر بالأردن عام 1997، وبينما كانت تلك الجمعيات تقدم المساعدات والمشاريع بلا مقابل أو بفوائد قليلة جدا لا تكاد تذكر، تحولت بعد ذلك إلى مؤسسات تمويل تحصل على منح خارجية باسم الأردن، وتقدمها على شكل قروض بفوائد عالية جدا، حسب مرجي. ووفقا لبيانات البنك المركزي الأردني بشأن أسعار الفوائد والرسوم والعمولات لشركات التمويل، فإن أسعار الفائدة السنوية على قروضها تراوح ما بين 19% و39%.

ومما يضاعف المشكلة عدم تنظيم هذا القطاع، فلا توجد أيّ قوانين للتمويل الأصغر في الأردن، ويجري تسجيل جميع مؤسسات التمويل الأصغر كشركات "غير ربحية" لدى وزارة الصناعة والتجارة، وبذلك لا تكون ملزمة بدفع الضرائب أو تحديد أسعار الفائدة، كما يقول مرجي.


تساهل في منح القروض

تعتبر شروط منح النساء قروضا صغيرة من تلك المؤسسات سهلة مقارنة بشروط منح القروض الشخصية من قبل البنوك التجارية، فغالبية النساء لا يعملن أو ليس لديهن دخل، وضمانات الإقراض - إن طلبت منهن - تكون في إطار متساهل، وهو ما يجعل من إدارة مخاطر إقراض النساء في أدنى صورها، ويعرضهن بشكل مباشر لمواجهة عدم القدرة على السداد، ما يضطرهن إلى جدولة قروضهن أو يعرضهن للملاحقة القانونية، أما البنوك، فهي أكثر تشددا في شروطها، فلا يمكن منح القرض دون وجود راتب شهري أو دخل ثابت، وفي كثير من الحالات يتم رهن أموال غير منقولة ضماناً للقرض، وطلب كفلاء، وتقديم كشف حساب بنكي، كما جاء في ورقة بحثية نشرتها جمعية تضامن في كانون الأول/ ديسمبر 2017، حول "الغارمات في الأردن".



ويؤكد الخبير الاقتصادي باسل سلطانة أن عدم تشديد الرقابة على "مقاصد التمويل" والتساهل في منح القروض أوجد آلاف المدينات لمؤسسات التمويل الأصغر، فهناك العديد من أنواع القروض التي لا تتطلب كفيلا، أو تكتفي بكفالة "الزوجة أو الأم أو الأخت" تحديدا كضمان أساسي، لتستخدم المؤسسة ذلك كوسيلة للضغط في اتجاه مصالحها. ويتفق الخبير الاقتصادي مرجي مع سلطانة، قائلا إن "النظرية القائمة خلف إنشاء تلك المؤسسات هي تقديم الفرصة للنساء لتمكينهنّ اقتصاديا، والفئات الفقيرة والعاطلين من العمل بمنحهم قروضا لإنشاء مشاريع صغيرة أو متناهية الصغر، وتسهيل الإجراءات لجذب العملاء، لكن تعمد هذه المؤسسات إلى نشر مندوبين لها في قرى وأماكن مهمشة، وتقدم قروضها دون أي تفصيلات بشأن الالتزامات على المدين والمخاطر التي قد يتعرض لها إن تخلف عن السداد".

ويبين تقرير "تنمية" لعام 2018 أن جُلّ عمل شركات التمويل الأصغر في المحافظات والمناطق الريفية وجيوب الفقر داخل عمان وخارجها، حيث إن 68% من فروع هذه الشركات تقع خارج عمّان، و69% من المقترضين من المحافظات وأريافها.

ويهدف تركيز مؤسسات التمويل على المقترضات النساء للوصول إلى فئات أكثر حساسية بحكم الوضع الاجتماعي المحيط، وخاصة النسوة الأقلّ تعليما والأكثر فقرا، واللواتي لا يعلمن شيئا عن العقود وبنودها، فيوقّعن دون معرفة الالتزامات التي تفرضها عليهن عقود التمويل، كما يكشف الناصر استنادا إلى تجربة عشرات الغارمات اللواتي تعامل مع مشاكلهن في إطار عمله كمدير تنفيذي لجمعية الرعاية اللاحقة للسجناء وأسرهم، ومن ضمنهنّ المسنّة أم فوزي (اسم مستعار) المقيمة في منطقة الغور، والتي قبلت عرض مندوب إحدى مؤسسات التمويل بالحصول على قرض بقيمة 300 دينار عندما زارها في منزلها، طارحًا عليها فكرة إعداد سلّات القشّ وبيعها، لتجد نفسها بعد أشهر قليلة في مواجهة موظفي التحصيل في تلك المؤسسة، والذين باتوا يهددونها بالحبس إن لم تسدد دفعات قرضها، بفائدة شهرية بلغت 1.9%، ونصف دينار غرامة عن كل يوم تأخير.

ويرى  الناصر أن استمرار هذه المؤسسات على نفس النهج، سيؤدي إلى ازدياد الإجراءات القضائية التي تصل إلى حبس المزيد من الغارمات اللواتي حصلن على قروض شخصية لا تتعدى ألف دينار في الغالب، للخروج من ظرف اقتصادي صعب، أو نتيجة الظروف المعيشية التي دفعتهن إلى الاستدانة من مؤسسات التمويل، ليجدن أنفسهن ملاحقات قضائيا، ما يضرّ بهنّ وأسرهنّ، وتشكل هذه الحالة تهديدا للاستقرار المجتمعي، على حدّ قوله.



رد شبكة تنمية

المدير التنفيذي لشبكة تنمية سليم النمري، يوضح أن مؤسسات التمويل الأصغر تقدم خدمات مالية متنوعة لمختلف الشرائح، وملائمة للاحتياجات التمويلية للعملاء المستهدفين، بالتالي تخضع الضمانات المطلوبة لوضع العميل، من باب التسهيل عليه، مؤكدا أنّ الإجراءات الائتمانية تزداد كلما ازدادت قيمة القرض، "فلا يمكن التعامل مع عميل اقترض 300 دينار أسوة بالعميل الذي اقترض 70 ألف دينار، فكلّ له حاجته المالية التي نتفهمها"، على حدّ قوله.

ويشير النمري إلى خدمات مؤسسات التمويل الاجتماعية التي توجب عليهم مراعاة حاجات طالبي القروض، وخاصة النساء، ليجد كل عميل القرض الملائم لحاجته، مشيرا إلى أن اعتماد كفالة الدم، أو كفالة السيدة المقترضة لأخرى، يهدف إلى التسهيل على الناس لمساعدتهم في الاقتراض وتحسين حياتهم.

وبلغت نسبة التأخر عن السداد لمدة 30 يوما في قطاع التمويل الأصغر في الأردن (1.7%) العام المنصرم، وهي أقل من النسبة العالمية البالغة 5%، حسب النمري، مشيرا إلى أن الأرقام المعلنة حول عدد الغارمات لا يعني أنّ جميعهنّ في الحبس، أو مطلوبات للتنفيذ القضائي، وإنما تعثرن في سداد قروضهن، وتتجه مؤسسة التمويل إلى القضاء عقب التأخر عن التسديد مدة 6-12 شهرا، وخاصة إذا قطع العملاء اتصالهم مع المؤسسة بتغيير مكان سكنهم أو عناوين اتصالهم، وفقا لقوله.

القانون يجيز حبس المدين

يجيز قانون التنفيذ الأردني رقم (25) لعام 2007 للدائن أن يطلب حبس مدينه إن لم يسدد الأخير الدين، إذ تنص الفقرة (أ) من المادة (22) على أنه "يجوز للدائن أن يطلب حبس مدينه إذا لم يسدد الدين أو يعرض تسوية تتناسب ومقدرته المالية خلال مدة الإخطار، على أن لا تقل الدفعة الأولى بموجب التسوية عن (25%) من المبلغ المحكوم به، فإذا لم يوافق المحكوم له على هذه التسوية، فللرئيس أن يأمر بدعوة الطرفين لسماع أقوالهما ويقوم بالتحقيق مع المدين حول اقتداره على دفع المبلغ، وله سماع أقوال الدائن وبيناته على اقتدار المحكوم عليه وإصدار القرار المناسب".

وتنص الفقرة (ج) من ذات المادة على أنه: "لا يجوز أن تتجاوز مدة الحبس تسعين يوماً في السنة الواحدة عن دين واحد، ولا يحول ذلك دون طلب الحبس مرة أخرى بعد انقضاء السنة". فيما نصت الفقرة (د) على أنه: "يمكن استمرار الحبس بعد انقضاء مدته من أجل دين آخر، وذلك بناء على طلب الدائن نفسه أو دائن آخر".

ورغم إدخال تعديلات على القانون عام 2017، لكن المادة (22) لم تلغَ، بينما يطالب نواب أردنيون بتعديلها لإلغاء حبس المدين إن لم يسدد دينه، وشطب الفقرتين (ج-د) من القانون ذاته، إذ رفع 48 نائبا ونائبة مذكرة في الثالث عشر من فبراير/ شباط 2019 لرئيس مجلس النواب يطالبون فيها بتعديل القانون.

ويؤكد رئيس لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية خير أبو صعيليك أنّ تعديل القانون سيحلّ جزءا فقط من قضية الغارمات، وعلى مؤسسات الإقراض إعادة النظر في آلية منح القروض المعتمدة لتقليص المشكلة، فالأصل أن تمنح هذه القروض بهدف تمويل مشاريع، لكنّ غالبيتها لم تُستثمر في أي مشاريع، حسب اطّلاعه على حالات لسيدات وقعن في مشاكل نتيجة الاقتراض.

ومن جهتها، تؤكد المحامية أسمى خضر، مديرة جمعية تضامن الحقوقية التي تُعنى بالدفاع عن المرأة، على ضرورة إعادة النظر بقانون التنفيذ، فلا يجوز احتجاز حرية مواطن بسبب عجزه عن تسديد دين من وجهة نظرها، مشيرة إلى العديد من الوسائل المدنية لتحصيل الديون، والتي تحفظ للدائن حقه وتعالج الإخلال لدى وقوعه، مثل الرهن والخدمة المجتمعية، أما الحبس، عدا عن سلبه للحرية، فهو يكلف الدولة مبالغ طائلة، وزيادة النزلاء في مراكز الإصلاح والتأهيل يعني التزامات أعظم، على حدّ قولها.

ولا بدّ أن تنتهج مؤسسات التمويل سياسات غير هادفة للربح، وأن تمنح القروض بناء على دراسات جدوى ومتابعة، للتأكد من أن هذه القروض ستكون رأس مال لمشروع يدرّ دخلا، إن كان هدفها تمكين المرأة فعلا، وفقا لخضر التي تؤكد  أن الاعتماد على التبرعات التي ستغطي ديون عدد محدود من الغارمات لن يحلّ المشكلة، وستعود الأموال التي يجري جمعها بالمحصلة إلى مؤسسات التمويل ذاتها التي خلقت الأزمة، ما يعطيها استمرارية، وهذا يفاقم المشكلة ويزيد عدد الغارمات مستقبلا.