شكل موضوع "تأثير أسعار النفط على النمو الاقتصادي والتنمية في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" العنوان الرئيس للمؤتمر الدولي الخامس عشر لمنظمة اقتصاديي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي يستضيفه معهد الدوحة للدراسات العليا في الدوحة لمدة ثلاثة أيام (23-25 آذار/ مارس) تحت رعاية الشيخ عبد الله بن ناصر بن خليفة آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية في دولة قطر، وبحضور عدد من الوزراء وكبار المسؤولين والسفراء، والأكاديميين والخبراء والباحثين والإعلاميين وضيوف المؤتمر.
وأكد العديد من المحاضرين في اليوم الأول للمؤتمر على أن دول المنطقة مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى، في ظل التراجع الكبير في أسعار النفط، إلى إحداث التنويع الاقتصادي الذي لطالما تحدثت عنه حكومات هذه الدول ومستشاروها، وإنهاء ارتهان اقتصاداتها لإيرادات النفط وأسعاره، من أجل ضمان تنمية مستدامة.
المؤسسات التشاركية ضمانة الاستدامة
قدم الدكتور جايمس روبنسون أستاذ الإدارة العامة في جامعة شيكاغو ومؤلف كتاب "لماذا تفشل الأمم" مع دارون أجيموغلو، محاضرة رئيسة في اليوم الأول من المؤتمر تمحورت حول ما يمكن أن تقدمه النظرية التي طورها في كتابه في فهم وضع الدول التي تعتمد اقتصاداتها على النفط.
وأكد على أن التحدي الرئيس لهذه الدول هو إقامة مؤسسات سياسية تشاركية مفتوحة، لأن ذلك هو الضامن الرئيس لإقامة نظام مؤسسات اقتصادية تشاركية مفتوحة تعد بدورها أساس تحقيق الاستدامة حتى بالنسبة إلى الدول التي استطاعت إلى حد الآن تحقيق نمو اقتصادي جيد، مثلما هو نموذج أغلبية دول مجلس التعاون الخليجي. وأوضح أن التحدي الأخطر ليس أن النفط سينفد ولكنه ضمان استمرارية وديمومة المؤسسات السياسية التشاركية؛ لأنها الوصفة الأفضل لتحقيق استخدام ثروة النفط في خدمة المجتمع.
وقد بدأ روبنسون بتوضيح النظرية التي قام عليها كتاب "لماذا تفشل الأمم"، ضاربا مثال أغنى رجلين في العالم؛ بيل غايتس الأميركي وكارلوس سليم من المكسيك، موضحاً أن غايتس بنى ثروته بالابتكار فيما بنى سليم ثروته عبر الاحتكار، وفيما صنع الأول ثروة لغيره إلى جانب ثروته الشخصية وقاد غيره نحو صناعة البرمجيات وساهم في تعزيز الثروة الأميركية، فإن الثاني بالعكس بنى ثروته اقتطاعا من ثروات غيره بل تشير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى أن كارلوس سليم تسبب بأنشطته الاحتكارية في الفترة ما بين 2005 و2009 في خسارة إجمالي الناتج المحلي المكسيكي ما مجموعه 129 مليار دولار بمعدل ما نسبته 1.8% من إجمالي الناتج المحلي سنوياً.
وفي تفسير هذه المفارقة، يبرز روبنسون دور النظام المؤسسي الأميركي التشاركي على المستوى الاقتصادي القائم على تعزيز حق الملكية وحمايته وسيادة دولة القانون وتوازن السلطات، في تعزيز فرص الاستثمار وفتح المجال أمام الابتكار لخلق الثورة.
في المقابل، فإن ما سمح لكارلوس سليم ببناء ثروته على حساب الثروة الوطنية والاقتصاد المكسيكي هو تحديد نوعية النظام المؤسسي الاحتكاري المغلق في المكسيك الذي لا يحمي الملكية على الرغم من وجود القوانين التي تنص على ذلك، كما لا يمنع الاحتكار الذي تنص القوانين أيضاً على عدم شرعيته.
ويرى روبنسون أن الأمر مرتبط بطبيعة المؤسسات السياسية في كلا البلدين، وهو ما ينعكس على البناء المؤسسي في المجال الاقتصادي.
وبحسب روبنسون، فإن نظام الأبرتايد في جنوب أفريقيا قبل 1994 نموذج مثالي عن تأثير الأنظمة المؤسساتية الاحتكارية المنغلقة وكيف تصنع الفقر، وهو النظام الذي كان يستغل عمل السود وينتزع الثروة منهم ليثري بها البيض الذين استحوذوا على 93% من موارد الاقتصاد الجنوب أفريقي.
ويوضح أن هذا النظام الاقتصادي كان انعكاسا لنظام سياسي يحتكر فيه البيض السلطة المطلقة.
ورأى المحاضر أنه في حالة الدول التي تعتمد اقتصاداتها على النفط، فإن بناء أنظمة مأسسية تشاركية مفتوحة بالغ الأهمية من أجل نمو مستدام، وللتعامل مع الصدمات أيضاً.
السياسات المالية على المحك
خصصت الجلسة العامة الأولى للمؤتمر لمناقشة موضوع تأثير تقلبات أسعار النفط في الموازنات الحكومية والسياسات المالية. وقد تحدث فيها كل من علي العامري المستشار الاقتصادي والمالي لدى رئيس الوزراء القطري، وماجدة قنديل المستشارة لدى البنك المركزي الإماراتي، وأسامة كنعان خبير صندوق النقد الدولي في مركز الشرق الأوسط للاقتصاد والمالية في الكويت.
وقد لفتت ماجدة قنديل إلى أبرز تأثيرات تراجع أسعار النفط في التوازنات الاقتصادية الكبرى في دول مجلس التعاون الخليجي.
وأوضحت أن تراجع أسعار النفط في العامين الماضيين أدى إلى تراجع نسبة إيرادات النفط والغاز في إجمالي إيرادات موازنات دول المنطقة مع استمرار النفط أعلى مورد من إيرادات الموازنة. وقد أدى كذلك إلى الحد من سياسات الإنفاق الحكومي لدول مجلس التعاون وظهور العجز في الموازنات مجددا بعد أعوام من التوازن أو الفوائض. وأشارت المحاضرة أيضا إلى تأثر الإقراض المصرفي بتراجع أسعار النفط حتى بالنسبة لتمويل القطاع الخاص في دول مجلس التعاون، والسبب هو تراجع الإيداعات الحكومية في البنوك وزيادة الطلب الحكومي على قروض البنوك، مما قلّص من مستويات التمويل المتاحة للقطاع الخاص لدى البنوك.
ومن المؤشرات الاقتصادية الكبرى الأخرى التي تأثرت بتراجع أسعار النفط بحسب ماجدة قنديل، ميزان المدفوعات والميزان التجاري في تقلص الفوائض عما كانت عليه في فترة ارتفاع أسعار النفط.
وفي مقابل هذه التأثيرات السلبية، أشارت المستشارة في السياسات المالية إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي تتمكن اليوم من مواجهة تبعات تراجع أسعار النفط بفضل الاحتياطيات النقدية الأجنبية التي كونتها في فترة ارتفاع الأسعار.
وهذه الاحتياطيات هي التي تمكن دول مجلس التعاون الخليجي من الحفاظ على ربط عملاتها بالدولار الأميركي (باستثناء الكويت التي لا تربط الدينار به).
ولكنها شددت على أن دول مجلس التعاون الخليجي التي تربط عملتها بالعملة الأميركية عليها أن تضع سياسات نقدية تحافظ على استقلالية ومسافة عن السياسة النقدية الأميركية ولا تتبعها في كل خطواتها؛ لأن السياسة النقدية الأميركية معاكسة لتوجهات سياسة تنويع الاقتصاد الذي ترغب دول الخليج في تحقيقه.
كما نصحت الخبيرة دول مجلس التعاون بوضع سياسات مالية تضع سقفاً للإنفاق الحكومي في فترات ارتفاع أسعار النفط حتى لا تضطر إلى خفض حاد له في فترات تراجع الأسعار أو إحداث عجز كبير في الموازنات.
قضايا متنوعة
كان المؤتمر قد استهل أعماله صباح اليوم الأربعاء في الدوحة بكلمة افتتاحية للدكتور ياسر سليمان رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا بالوكالة، أبرز فيها أهمية انعقاد مؤتمر اقتصاديي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المرحلة الحالية، خصوصاً أنه يطرح في برنامج جلساته قضايا بالغة الأهمية، مثل التعليم والبيئة وبرامج الإصلاح ومسارات التطوير، إضافة إلى قضايا الطاقة والمال وتذبذبات أسعار النفط، من دون إغفال مسائل الهجرة واقتصادات سوق العمل والتجارة الدولية والحوكمة.
وعبر الدكتور ياسر عن اعتزاز معهد الدوحة للدراسات العليا باستضافة هذا المؤتمر المهم الذي يجمع تنوعاً كبيراً في موضوعاته التي تناقشها كوكبة من الخبراء والمختصين.
وأضاف أن الأهداف التي ينشدها معهد الدوحة للدراسات العليا تتناغم مع أهداف جمعية اقتصاديي الشرق الأوسط، من حيث هو معهد نهضوي يسعى إلى تدريب أجيال باحثة من أبناء دولة قطر ومن الوطن العربي عموماً، أجيال تؤمن بدورها في بناء مجتمعاتها بانفتاح ناقد على الذات وعلى مصادر المعارف الإنسانية مهما كانت منابعها.
وتحدث الدكتور حسن علي رئيس منظمة اقتصاديي الشرق الأوسط وعميد كلية الإدارة العامة واقتصاديات التنمية في معهد الدوحة للدراسات العليا عن أهمية المؤتمر الذي تحضره نخبة من أبرز الأكاديميين وصانعي السياسات نادراً ما تلتقي تحت سقف واحد.
وأضاف أن موضوع المؤتمر "تأثير أسعار النفط في النمو الاقتصادي والتنمية في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" جرى اعتماده منذ نحو سنة إلا أنه يعد في الوقت الحالي موضوع أهم الأخبار الاقتصادية العالمية. وهو بالأخص يتصدر العناوين الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي. ورأى الدكتور حسن أن القضايا التي يطرحها المؤتمر ذات أهمية بالغة بالنظر إلى توجهات السوق النفطية على المدى القريب، متوقعاً أن ينخفض فائض المعروض النفطي في السوق العالمية في النصف الثاني من العام الحالي. ولكن إن لم يتوصل أعضاء أوبك والمنتجين من خارج أوبك لاتفاق لخفض الإنتاج خلال الأشهر الثلاثة أو الأربعة المقبلة فإن أسعار النفط لن ترتفع كثيراً، إذ قد تستقر على ما هي عليه أو ترتفع بنسبة ضئيلة.
برنامج المؤتمر
يذكر أن المؤتمر السنوي الخامس عشر لمنظمة اقتصاديي الشرق الأوسط يشمل برنامجاً ثرياً من الجلسات التي تقدم فيها أوراق تحليلية للعديد من القضايا الرئيسة المهمة بالنسبة لاقتصادات المنطقة. ويضم البرنامج ثلاث جلسات عامة خصصت أولاها لتأثير تذبذب أسعار النفط في السياسات المالية والنقدية، والثانية حول تأثير تقلب أسعار النفط على تنويع الاقتصاد والتنمية البشرية، والثالثة عن تأثير تقلب أسعار النفط على الاقتصاد العالمي.
وتعقد خلال أيام المؤتمر ورش عمل تتضمن مساهمات خبراء وباحثين اقتصاديين يقدمون أكثر من 80 ورقة بحثية تتعلق جميعها باقتصادات الشرق الأوسط، ويركز جزء كبير منها على موضوع النفط، إلى جانب أوراق بحثية تتعلق باقتصاديات التعليم والعمل.