يغرق اليمن في الظلام في غمضة عين، حين يتعرض برج كهربائي في مأرب للاعتداء، ويدخل اليمن أزمة خانقة في محطات الوقود إذا تم اعتراض الناقلات الآتية من مأرب، وتتكبد الخزينة خسائر يومية بملايين الدولارات إذا تعرض أنبوب تصدير النفط لتفجير في مأرب، ويجتمع هذا كله إذا قتلت السلطات بالخطأ، رمزاً قبلياً من مأرب.
في مأرب الواقعة في "قلب" اليمن، تجتمع اليوم كل الشرايين اللازمة لحياة طبيعية لليمنيين. لكنها مع ذلك، واقعة في هامش اهتمام الحكومة، وبعيداً عن عدسات التلفزة ومراكز البحث.
سبأ والملكة بلقيس
عند الحديث عن مأرب، يفرض التاريخ نفسه كأول المعنيين، إذ شهدت المنطقة ولادة حضارة سبأ التي تقول صفحات "العهد القديم" إنها مدت نفوذها الى تخوم المتوسط. واشتهرت سبأ بالملكة بلقيس وزيارتها التاريخية للنبي سليمان.
اعتمدت حضارة سبأ على تجارة البخور، وبناء السدود لحجز مياه الأمطار ما أدى لازدهار الزراعة، ثم "تفرّقت أيدي سبأ" بعد "سيل العرم" الذي بدّل جنّتيهم بـ"جنتين ذواتي أُكْلٍ خمْطٍ وأثْلٍ وشيءٍ من سِدرٍ قليل".
ولا تزال آثار سبأ ماثلة حتى اليوم رغم تعرضها للنهب والطمس، إذ زارها شيخ الآثاريين المصريين البروفيسور أحمد فخري أواخر الخمسينيات وقال "ما هممت أن أقتل أحداً في حياتي سوى أحمد الكحلاني عامل الإمام بمأرب (محافظ المحافظة)"، لأن آثار مأرب كانت تتعرض للطمس بإشراف حكومة الإمام الذي ثار عليه اليمنيون سبتمبر/أيلول 1962.
السد والشيخ زائد
تبلغ مساحة محافظة مأرب 17405 كيلومترات مربعة، تتوزع على 14 مديرية. وتبعد مدينة مأرب مركز المحافظة، 173 كيلومتراً شرق العاصمة صنعاء، ويبلغ سكان المحافظة حوالى 270 ألفاً وفق آخر التقديرات، وتمثل مأرب مع المناطق المحاذية لها من الجوف وشبوة وحضرموت والبيضاء، نسيجاً اجتماعياً متقارباً تغلب عليه حياة البدو، ويسكنها قبائل مراد ونسبة من الأشراف الهاشميين.
في العام 1984، وضع الرئيس علي عبد الله صالح والشيخ زايد بن سلطان حجر الأساس لإعادة بناء "سد مأرب". وتمت المرحلة الأولى من السد الذي جعل مأرب المحافظة الثالثة من حيث إمداد اليمن بالمحاصيل الزراعية.
يبلغ طول "سد مأرب" 577 متراً، وعرضه 915 متراً، أي ما يساوي ضعف سد "هوفر" الأميركي. وكتب الشيخ زايد قصائد عن مأرب ونقل عنه أن أصول "آل نهيان" تنحدر منها.
النفط وبوش الأب
في صيف العام 1984، أعلنت شركة "هنت" الأميركية عن اكتشاف نفط في قطاع مأرب الجوف بكميات تجارية، وتم في العام 1986 إنشاء مصفاة صافر وتصدير أول شحنة نفط يمني مأربي إلى اليابان بحضور جورج بوش (الأب) الذي كان يومها نائباً للرئيس الأميركي.
غطّى نفط مأرب السوق اليمنية، وتم تصدير الفائض إلى الخارج، وكان اكتشاف الغاز في مأرب مواكباً لاكتشاف النفط في 1984. ثم في العام 2005، تمّ توقيع اتفاقيات بيع الغاز الطبيعي الطويلة الأجل بين الشركة اليمنية للغاز الطبيعي، وكل من المؤسسة الكورية (كوجاز) وشركة سويس لتجارة الغاز الطبيعي وشركة توتال الفرنسية للطاقة والغاز لتصدير حوالي 6.7 مليون طن سنوياً من الغاز إلى السوقين الكورية والأميركية. وعرفت تلك الاتفاقيات بأنها من أكبر صفقات الفساد في عهد صالح لأنها باعت الغاز بأقل بكثير من سعره العالمي.
تناقص إنتاج مأرب من النفط من 200 ألف برميل يومياً، ليصبح أقل من 50 الفاً يومياً، بسبب نضوب بعض الآبار وكذا عمليات التخريب المستمرة لأنبوب التصدير.
"القاعدة" وأبو علي الحارثي
مع بدء الحرب الدولية على "الإرهاب" بعد اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001، كانت صحراء مأرب موطن أول ضربة أميركية في اليمن، بطائرة من دون طيار (درون)، استهدفت في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 "أبو علي الحارثي" المتهم بالاشراف على تفجير المدمرة الأميركية "يو اس اس كول" في مياه عدن في العام 2000.
وعقب تلك الضربة، استقبل تجار أسلحة ورموز قبليون من مأرب زيارات من السفير الأميركي الأسبق في صنعاء ادموند هول، الذي اتهمته حينها صحف معارضة بإبرام تحالفات مع شخصيات في مأرب من دون رضى السلطات اليمنية.
كما شهدت مأرب في السنوات اللاحقة على اغتيال الحارثي، عمليات استهداف طالت سياحاً أجانب وقيادات أمنية من قبل عناصر "القاعدة". على أن الغارات الأميركية التي تستهدف قاعديين مفترضين، توقفت في اليمن منذ 2002 لتعود في أواخر 2009.
تقول المعطيات إنه حيث تكمن موارد الطاقة، تكمن الأسرار والألغاز والأحاجي. ولاحظ موقع متخصص بمتابعة ضربات "الدرون"، أن الخط البياني لضربات الطائرات الأميركية من دون طيار في اليمن، هو نفسه الخط البياني لأنبوب تصدير النفط والغاز.
أميركا وجابر الشبواني
في العام 2009، تم افتتاح محطة مأرب الغازية التي أنشئت بالقرب من منابع الغاز وصارت المصدر الرئيسي لإمداد المحافظات اليمنية بالكهرباء.
وفي مايو/أيار 2010، قتلت غارة أميركية نائب محافظ مأرب والقيادي في حزب صالح، جابر علي الشبواني، أثناء قيامه بمهمة تفاوُض مع "القاعدة"، بالتنسيق مع السلطات في صنعاء.
حاولت السلطات اليمنية الادعاء ان طيرانها الحربي هو من استهدف الشبواني بالخطأ، لتعلن واشنطن أن مقتله تم بطائرة أميركية. وانتقاماً لمقتله، تعرّض أنبوب النفط للتخريب، وقام الرئيس صالح بتحكيم آل شبوان وفق العرف القبلي، عارضاً دية مضاعفة لدم جابر.
لم تتوقف أعمال تخريب الأنبوب بين الحين والآخر حتى اليوم. وتقول الإحصائيات الرسمية إن تخريب الأنبوب كلّف اليمن مليارات الدولارات. وبما يفوق ما يرتجيه من مساعدات المانحين.
إلى ذلك، لا تزال خطوط نقل الطاقة الكهربائية تتعرض لاعتداءات متكررة تغرق اليمن في الظلام وتسبب خسائر هائلة مباشرة وغير مباشرة.
هادي وحمد بن غريب
لم تكن علاقة نظام صالح بمأرب على خير ما يرام، بل شابتها توترات عديدة، ونفذ الجيش في أواخر عهد صالح، حملات ضد قبائل في مأرب، كما قام قبليون باستهداف وتصفية ضباط من أقرباء صالح أثناء تأديتهم الخدمة بمأرب.
ويبدو من خلال مقتل الشيخ حمد بن غريب الشبواني، وابن أخيه الخميس، في صنعاء برصاص نقطة أمنية، أن علاقة الرئيس عبد ربه منصور هادي بمأرب لن تكون أحسن من سلفه.
ومساء الخميس الماضي، تصدر وسائل الإعلام نبأ مقتل مسلحين اثنين مشتبه بانتمائهما إلى "القاعدة" قرب مقر الرئاسة اليمنية في صنعاء، اتضح في ما بعد أنهما شيخ من مأرب هو حمد سعيد غريب الشبواني، وابن أخيه شائف محمد سعيد غريب الشبواني. وركّز البيان الرسمي على ذكر الأخير، وأهمل الأول، واصفاً إياه بأنه مرافق له.
بيان "اللجنة الأمنية العليا"، (أعلى سلطة أمنية وعسكرية في البلاد ويرأسها رئيس الجمهورية)، أعلن أن شائف الشبواني من القيادات "الخطيرة" لـ"القاعدة"، وقُتل ومرافقاً له (حمد) بعملية نوعية لأجهزة الأمن، بعد مقاومتهما الاعتقال؛ وما إن صدر البيان الحكومي، حتى اشتعل غضب القبائل في مأرب وبدأت بمهاجمة المواقع العسكرية والمنشآت النفطية، بمبرر أن القتيلين ليسا مرتبطين بـ"القاعدة".
ويوم الأحد الماضي، أصدر هادي، توجيهاً بتشكيل لجنة للتحقيق في الحادثة، بعدما بعثت قبائل عبيدة التي ينتمي إليها القتيلان، برسالة إلى رئيس الجمهورية، حصل "العربي الجديد" على نسخة منها، طالبت فيها بـ"تصحيح المعلومات الخاطئة التي نشرت في وسائل الإعلام الرسمية من إشاعات وتضليل وتشهير بأناس أبرياء".
ويُعَدّ توجيه الرئيس هادي بالتحقيق في مقتل الشبواني وابن أخيه، تراجعاً ضمنياً عن التهمة الواردة في بيان "الأمنية العليا"، وهو يشبه التراجع عن بيان مماثل لحادثة مماثلة هي مقتل الشيخ سعد بن حبريش مطلع ديسمبر/كانون الأول 2013 في محافظة حضرموت.
حادثة مقتل جابر الشبواني بغارة أميركية عن طريق الخطأ تم عزوها لبلاغات خاطئة من أطراف يمنية، وحادث مقتل حمد الشبواني وابن أخيه تعزوه مصادر محلية لبلاغ كيدي كاذب. وقد زرع تكرار الخطأ، بذور الشك لدى كثيرين في مقدمتهم آل شبوان. يقول صالح بن غريب الشبواني، أحد أقارب القتيلين، لـ"العربي الجديد"، إن "القبيلة لم ترد على مقتل عائض ومجاهد وغيرهما ممن ينتمون إلى القاعدة" (قاعديان من آل شبوان قُتلا في أوقات سابقة)، "ولكنها ترفض قتل الأبرياء فليس من حق الحكومة القتل بدون اتهام"، على حد تعبيره.
والحال اليوم أنه، بالإضافة إلى كل ما تكبدته البلاد من أضرار جراء وقوع السلطات في فخ توتير العلاقة مع قبائل في مأرب، فإن الخوف الحقيقي هو أن يؤدي تزامن حدوث هذا التوتر مع الحملة العسكرية على معاقل "القاعدة" في محافظتي أبين وشبوة، إلى تهيئة أجواء مساعدة لانتقال عناصر قاعدية فارة من أبين وشبوة، إلى مأرب، ضمن ما بات يعرف بـ"لعبة الأماكن البديلة".