ليوناردو، يكفي هذا الاسم وحده لاستحضار أهم الظواهر الفنية والعبقرية التي اختُزلت في شخص واحد، لأوّل وربما آخر مرّة في التاريخ؛ فنون الرسم والنحت إلى جانب الفلسفة والشعر والموسيقى والتاريخ والمسرح وعلوم الفلك والبصريّات والنبات والتشريح والتخطيط المدني والتصاميم الهندسية والميكانيكية.
ولد ليوناردو دا فينشي في فلورنسا عام 1452، وتوفّي عن سبعة وستين عامًا، في أحد القصور الملكية الفرنسية في أمبواز، مخلّفًا وراءه إرثًا ما زال يدهش العالم إلى اليوم. وبالتزامن مع المعرض العالمي "إكسبو ميلانو" في ميلانو، التي عاش فيها عقدين من عمره، إذ عمل لدى حاكم ميلانو القوي لودفيكو سفورزا بين عامي 1482 و1489، تكرّمه إيطاليا بأكبر معرض ينظّم لأعماله المنتشرة في أهمّ المتاحف العالمية والمجموعات الخاصّة.
ظلال وعتمة تعبرها أضواء خافتة في قاعات القصر الملكي بميلانو، حيث جُمّعت لوحات ليوناردو ومنحوتاته ومخطوطاته ورسومه وتصاميمه المذهلة للسيّارة والدبّابة والغوّاصة والهليكوبتر. أمّا الغائبة الكبرى عن المعرض، فهي الجوكاندا أو الموناليزا، رائعة دا فينشي ولغز الألغاز وأشهر لوحة في تاريخ الرسم. بقيت "موناليزا" محفوظة في متحف اللوفر الذي لم يسمح بإعارتها أبدًا بعد سرقتها ثمّ استعادتها في عام 1911. بيد أنّ المتحف الفرنسي ساهم بلوحات ثلاث لا تقلّ أهمية عن الموناليزا، وأبرزها لوحة La belle ferronnière "الفرّونية الحسناء" التي يقف أمامها الناظر حائرًا وعاجزًا عن تحديد مرمى عينيها أو قراءة سيمائها. أراد ليوناردو عبر هذه اللوحة اختصار قصّة تلك السيدة الغامضة التي عاشت إحدى أغرب قصص العشق في عهد الملك فرنسوا الأوّل. ويختلف مؤرّخو الفنّ حول الهوّية الحقيقيّة للمرأة الغامضة المسمّاة الحسناء الفرّونيّة، فهذا الاسم يأتي من التباس بينها وبين لوحة أخرى لسيدةٍ قيل إنها كانت عشيقة للملك فرانسوا الأوّل وكان زوجها محاميا باريسيّا Le Ferron، فنُسبت إليه. وقد ذُكرت اللوحة للمرّة الأولى في سجلات المجموعة الملكيّة الفرنسيّة عام 1642 باعتبارها تمثّل دوقة مانتوفا.
وقد سمحت غاليري الأكاديمية في فينيسيا بإعارة اللوحة الأيقونة Vitruvian Man الرجل الفيتروفي، لمدّة شهر واحد فقط.
وفي المعرض أيضًا Codex Atlanticus "مخطوطة أتلانتيكس" التي تضمّ في اثني عشر مجلّدًا أعمال دا فينتشي المكتوبة والرسومات التي لخّص فيها رؤيته الشاملة والثاقبة إلى العالم طوال حياة كرّسها للتوحيد بين الفنون والعلوم، بفضول قلّ نظيره في التاريخ. وتتألّف المخطوطة من 1119 ورقة مؤرّخة بين عامي 1478 و1519. وتطول مضمونها مجموعة متنوعة من المواضيع من الطيران إلى الأسلحة إلى الآلات الموسيقية والرياضيات والتشريح. وقد جمع النحات بومبيو ليوني هذه المخطوطة في نهاية القرن السادس عشر، وهي من أهمّ مقتنيات مكتبة أمبروزيانا الشهيرة في ميلانو.
أمّا جدارية العشاء السرّي الأخير الشهيرة، ففي مكانها في ميلانو داخل كنيسة سانتا ماريا ديل غرازيي. رسمها ليوناردو بين عامي 1494 و1498 على جدار قاعة الطعام الواسعة، مستعملًا تقنية "على جدار جاف". بيد أن التقنية الجديدة لم تتآلف على ما يبدو مع الحرارة والظروف المناخية، ما أدّى إلى سلسلة من الترميمات على مرّ السنين، وكان آخرها عام 1999. ونظرًا إلى حساسية هذه الجدارية، وضعت معايير خاصّة بتحديد عدد الزوار في القاعة بخمس وعشرين زائرًا فقط، ولمدّة لا تتجاوز الخمس عشرة دقيقة.
أدرك ليوناردو في نهاية حياته أنه أفرط في فضوله وتشعّب أبحاثه في مجالات عديدة، حتى غابت عنه الغاية الأخيرة التي كان ينشدها: وحدة المعرفة التي سعى إليها راسمًا كلّ ما يراه ويتخيّله، ليحوّله إلى جمال مفيد ينقذ العالم.
شهد ليوناردو النور في قرية صغيرة على أرباض فلورنسا، وعاش طفولة صعبة كابن غير شرعي لوالدته التي تزوجت عند بلوغه الخامسة من الرجل الذي حمل دا فينتشي كنيته. كان الرسم باب ليوناردو الأوّل إلى الفنون؛ حيث بدأ تلميذا على يد المعلّم آندريا دل فيرّوكيو ينظّف له الأرياش طوال عامين، ثم راح ينهل من شتى منابع العلوم والفنون، مدفوعًا بعبقرية فذّة وفضول لا يعرف الحدود، حتّى قال عنه الملك فرنسوا الأول، الذي أمضى آخر سنوات حياته في كنفه: "لم يعرف التاريخ إنسانًا جمع هذا القدر من المعارف في الرسم والفلسفة والشعر والعلوم مثل ليوناردو دا فينتشي".
كان رمزًا لعصر النهضة، وللعبقري الشامل الذي جمع في شخص واحد أكبر عدد من المواهب. بيد أن معظم تصاميمه الهندسية المذهلة بقيت حبرًا على ورق، لتعذّز تحقيقها في ذلك العصر. ويقدّر أنه ترك عند مماته زهاء خمسين ألف مخطوطة لم يبق منها سوى ثلاثة عشر ألفًا تقريبًا معظمها محفوظة في مكتبة الفاتيكان.
على بعد مئات الأمتار من معرض ليوناردو الذي يختصر أجمل حقب التاريخ الإيطالي وأخصبها، تنظّم إيطاليا "إكسبو ميلانو" الضخم ساعية من خلاله إلى استحضار قدرتها على الإبداع والإدهاش، واستعادة سمعتها الدولية التي تتدهور منذ سنوات، بسبب سوء الإدارة والمافيا والفساد.
أسئلة مصيرية تحاول إيطاليا الإجابة عنها في هذا المعرض الذي اختارت له "الغذاء" موضوعًا رئيسًا؛ فهل بإمكان العالم مواصلة هذا النمط الاستهلاكي الجامح، من غير أن يشكّل ذلك خطرًا على ديمومة الأجيال القادمة؟ أستبقى الشعوب ممسكة بزمام مصيرها وقدرتها على النمو والتعاون والتضامن والتنافس؟ أم ستستسلم نهائيا لمشيئة قوى المال التي تواصل إحكام سيطرتها على الاقتصاد وعلى القرار السياسي؟
ثمانمائة وأربعون مليون إنسان يطوون بطونهم على الجوع كلّ ليلة في هذا العالم الذي يعاني فيه مليارا نسمة من السمنة، بينما يقاسي ملياران من تداعيات الفقر ونقص التغذية. المفارقة أن هذه المسألة التي تشغل بال إيطاليا القرن الواحد والعشرين، كانت في صميم شواغل ليوناردو الذي لم يتزوّج ولم يترك ذريّة، وطلب في وصيته أن يمشي في جنازته ستون شحّاذًا، إلى جانب الفنانين والنبلاء والأرستقراطيين، يرافقون جثمانه الذي دفن في إحدى الكنائس الفرنسية تحت لوحة كتب عليها: "ليوناردو دا فينشي، ماذا عساك أن تقول أكثر من ذلك؟".
(صحافي لبناني)
ولد ليوناردو دا فينشي في فلورنسا عام 1452، وتوفّي عن سبعة وستين عامًا، في أحد القصور الملكية الفرنسية في أمبواز، مخلّفًا وراءه إرثًا ما زال يدهش العالم إلى اليوم. وبالتزامن مع المعرض العالمي "إكسبو ميلانو" في ميلانو، التي عاش فيها عقدين من عمره، إذ عمل لدى حاكم ميلانو القوي لودفيكو سفورزا بين عامي 1482 و1489، تكرّمه إيطاليا بأكبر معرض ينظّم لأعماله المنتشرة في أهمّ المتاحف العالمية والمجموعات الخاصّة.
ظلال وعتمة تعبرها أضواء خافتة في قاعات القصر الملكي بميلانو، حيث جُمّعت لوحات ليوناردو ومنحوتاته ومخطوطاته ورسومه وتصاميمه المذهلة للسيّارة والدبّابة والغوّاصة والهليكوبتر. أمّا الغائبة الكبرى عن المعرض، فهي الجوكاندا أو الموناليزا، رائعة دا فينشي ولغز الألغاز وأشهر لوحة في تاريخ الرسم. بقيت "موناليزا" محفوظة في متحف اللوفر الذي لم يسمح بإعارتها أبدًا بعد سرقتها ثمّ استعادتها في عام 1911. بيد أنّ المتحف الفرنسي ساهم بلوحات ثلاث لا تقلّ أهمية عن الموناليزا، وأبرزها لوحة La belle ferronnière "الفرّونية الحسناء" التي يقف أمامها الناظر حائرًا وعاجزًا عن تحديد مرمى عينيها أو قراءة سيمائها. أراد ليوناردو عبر هذه اللوحة اختصار قصّة تلك السيدة الغامضة التي عاشت إحدى أغرب قصص العشق في عهد الملك فرنسوا الأوّل. ويختلف مؤرّخو الفنّ حول الهوّية الحقيقيّة للمرأة الغامضة المسمّاة الحسناء الفرّونيّة، فهذا الاسم يأتي من التباس بينها وبين لوحة أخرى لسيدةٍ قيل إنها كانت عشيقة للملك فرانسوا الأوّل وكان زوجها محاميا باريسيّا Le Ferron، فنُسبت إليه. وقد ذُكرت اللوحة للمرّة الأولى في سجلات المجموعة الملكيّة الفرنسيّة عام 1642 باعتبارها تمثّل دوقة مانتوفا.
وقد سمحت غاليري الأكاديمية في فينيسيا بإعارة اللوحة الأيقونة Vitruvian Man الرجل الفيتروفي، لمدّة شهر واحد فقط.
وفي المعرض أيضًا Codex Atlanticus "مخطوطة أتلانتيكس" التي تضمّ في اثني عشر مجلّدًا أعمال دا فينتشي المكتوبة والرسومات التي لخّص فيها رؤيته الشاملة والثاقبة إلى العالم طوال حياة كرّسها للتوحيد بين الفنون والعلوم، بفضول قلّ نظيره في التاريخ. وتتألّف المخطوطة من 1119 ورقة مؤرّخة بين عامي 1478 و1519. وتطول مضمونها مجموعة متنوعة من المواضيع من الطيران إلى الأسلحة إلى الآلات الموسيقية والرياضيات والتشريح. وقد جمع النحات بومبيو ليوني هذه المخطوطة في نهاية القرن السادس عشر، وهي من أهمّ مقتنيات مكتبة أمبروزيانا الشهيرة في ميلانو.
أمّا جدارية العشاء السرّي الأخير الشهيرة، ففي مكانها في ميلانو داخل كنيسة سانتا ماريا ديل غرازيي. رسمها ليوناردو بين عامي 1494 و1498 على جدار قاعة الطعام الواسعة، مستعملًا تقنية "على جدار جاف". بيد أن التقنية الجديدة لم تتآلف على ما يبدو مع الحرارة والظروف المناخية، ما أدّى إلى سلسلة من الترميمات على مرّ السنين، وكان آخرها عام 1999. ونظرًا إلى حساسية هذه الجدارية، وضعت معايير خاصّة بتحديد عدد الزوار في القاعة بخمس وعشرين زائرًا فقط، ولمدّة لا تتجاوز الخمس عشرة دقيقة.
أدرك ليوناردو في نهاية حياته أنه أفرط في فضوله وتشعّب أبحاثه في مجالات عديدة، حتى غابت عنه الغاية الأخيرة التي كان ينشدها: وحدة المعرفة التي سعى إليها راسمًا كلّ ما يراه ويتخيّله، ليحوّله إلى جمال مفيد ينقذ العالم.
شهد ليوناردو النور في قرية صغيرة على أرباض فلورنسا، وعاش طفولة صعبة كابن غير شرعي لوالدته التي تزوجت عند بلوغه الخامسة من الرجل الذي حمل دا فينتشي كنيته. كان الرسم باب ليوناردو الأوّل إلى الفنون؛ حيث بدأ تلميذا على يد المعلّم آندريا دل فيرّوكيو ينظّف له الأرياش طوال عامين، ثم راح ينهل من شتى منابع العلوم والفنون، مدفوعًا بعبقرية فذّة وفضول لا يعرف الحدود، حتّى قال عنه الملك فرنسوا الأول، الذي أمضى آخر سنوات حياته في كنفه: "لم يعرف التاريخ إنسانًا جمع هذا القدر من المعارف في الرسم والفلسفة والشعر والعلوم مثل ليوناردو دا فينتشي".
كان رمزًا لعصر النهضة، وللعبقري الشامل الذي جمع في شخص واحد أكبر عدد من المواهب. بيد أن معظم تصاميمه الهندسية المذهلة بقيت حبرًا على ورق، لتعذّز تحقيقها في ذلك العصر. ويقدّر أنه ترك عند مماته زهاء خمسين ألف مخطوطة لم يبق منها سوى ثلاثة عشر ألفًا تقريبًا معظمها محفوظة في مكتبة الفاتيكان.
على بعد مئات الأمتار من معرض ليوناردو الذي يختصر أجمل حقب التاريخ الإيطالي وأخصبها، تنظّم إيطاليا "إكسبو ميلانو" الضخم ساعية من خلاله إلى استحضار قدرتها على الإبداع والإدهاش، واستعادة سمعتها الدولية التي تتدهور منذ سنوات، بسبب سوء الإدارة والمافيا والفساد.
أسئلة مصيرية تحاول إيطاليا الإجابة عنها في هذا المعرض الذي اختارت له "الغذاء" موضوعًا رئيسًا؛ فهل بإمكان العالم مواصلة هذا النمط الاستهلاكي الجامح، من غير أن يشكّل ذلك خطرًا على ديمومة الأجيال القادمة؟ أستبقى الشعوب ممسكة بزمام مصيرها وقدرتها على النمو والتعاون والتضامن والتنافس؟ أم ستستسلم نهائيا لمشيئة قوى المال التي تواصل إحكام سيطرتها على الاقتصاد وعلى القرار السياسي؟
ثمانمائة وأربعون مليون إنسان يطوون بطونهم على الجوع كلّ ليلة في هذا العالم الذي يعاني فيه مليارا نسمة من السمنة، بينما يقاسي ملياران من تداعيات الفقر ونقص التغذية. المفارقة أن هذه المسألة التي تشغل بال إيطاليا القرن الواحد والعشرين، كانت في صميم شواغل ليوناردو الذي لم يتزوّج ولم يترك ذريّة، وطلب في وصيته أن يمشي في جنازته ستون شحّاذًا، إلى جانب الفنانين والنبلاء والأرستقراطيين، يرافقون جثمانه الذي دفن في إحدى الكنائس الفرنسية تحت لوحة كتب عليها: "ليوناردو دا فينشي، ماذا عساك أن تقول أكثر من ذلك؟".
(صحافي لبناني)