14 مايو 2018
ليلى التي لا تموت
فادي الحسني (فلسطين)
تقيم ليلى على شاطئ المتوسط، وتعيش بأقل من المتوسط. تصنع المعجزات لأجل البقاء على قيد الحياة، على الرغم من كل ما يحاك لأجل قتلها. هذه الصبية هي غزة، المدينة العصية على الانكسار، والتي تصحو على صوت إطلاق نار، وتنام ليلها على وقع انفجار.
تحاول الفكاك من قبضة الحصار الذي يحكم خناقه على رقبتها، يوجعها حد الموت، ولا تموت. تواري ألمها خلف ستارة مهترئة في مشفى حكومي شبه معتم، ومن خلفها مريض يئن على سرير متهالك، يعاني شحاً في الدواء، وإسعافاً خالياً من الوقود، وطنين إنذار في قسم العناية، وهدير طيران لم يخفت منذ البداية. وحين تسألها عن الصحة تقول: دعك من عناوين الصحف، ولا تقلق علينا فالصحة "بومب"!.
غريبة هذه الليلى التي ما فتئت شاشات التلفاز تبث أخبارها، ما بين عتمة وإغلاق معبر، وحاجز وسفر وعوز وقصف وهدم بيت، وإفلاس يضرب أطنابه على جيوب الناس، وموظف محروم من الراتب، يسأل إن كان من حقه أن يعاتب.
هذه الليلى واقفة على أقدامٍ من خشبٍ، ترقب مسيرات التنديد التي تطل على استحياء من بعيد، تلوّح بعصاها في وجه الجند الذين يلفونها بسلك شائك، ويطوقونها بالرصاص. تقاتل، تناور، تستخدم الدبلوماسية حيناً، والراديكالية حيناً، لأجل صد كل الأطماع، وتفكيك كل الكمائن التي نصبت لقتلها.
ليلى احدودب ظهرها، وهي في طريقها إلى الوطن، كانت عائدةً لولا أن قطع عليها الانقسام السياسي الطريق، فاضطرت لسلك طرق التفافية. وعليه، ضاعت القضية، عذراً أقصد هذه الصبية!. ليلى شاخت، ليلى تاهت، ليلى قاربت على الموت، ولم تمت.
جاءت إلى الشاطئ، تعبد مرفأً بحرياً، تقيم ميناء للسفر، حرقوا كل المراكب في وجهها. وفتحوا للبحر أبواباً أخرى، عساها تغرق، لكنها لم تغرق، لم تمت. مجنونة هذه الليلى لا تعرف الموت.
ليلى تجيء صباحاً إلى محطات الوقود، تسأل عن بقايا مخزون، تسأل نقاط الارتباط المدني عن إمكانية فتح المعبر الإسرائيلي في وجه السلع، أو عبور مريض يقتله الوجع؟
ليلى تصنع البدع: تشغل مركباتها على الزيت، ولا تقوى على دفع ثمن أجرة البيت، ورسوم الفصل واستخراج الورق طبق الأصل. ليلى تذهب إلى عملها صباحاً، مشياً على الأقدام، ليلى تأكل الأحلام.
ليلى التي في السجن حزينة أيضا، فهي لا تقوى على دفع رسوم "الكنتينة"، تشتهي قطف التين، قبل أن يمر تشرين. ترتجي التقاء البنات والبنين، يموت العمر خلف القضبان، ولا يفنى النضال.
وليلى القدس عنيدة، ترى عبوسها في قتامة قبة الصخرة، في صليب منكس، في وجه رجل يبيع الكعك في أرذل العمر، ولا ييأس، في محل لحلواني ينصت للمذيع من دون امتاع: مريت في الشوارع، شوارع القدس العتيقة. يرد بصوت خافت: في شوارع القدس جند يعربدون، فماذا أنتم فاعلون؟ ثم يغلق المذياع، ويتجه إلى صلاة الظهر، توقفه شرطية زنجية، تستجوبه ثم تطلب الهوية، كعادة إجراءاتها الروتينية.
ليلى تجلس عند باب العمود، تطرز فستاناً جميلاً لابنة شهيد، ترقب صباح العيد، عساها تلمح طيف أبيها يمر من فوق القباب، يذبح كبشاً ينثر دمه، يطبع بكفة يده خمسة على الباب. ثم يعود يلوّح بكفه الأحمر، عائداً إلى السماء.
أما ليلى الضفة الغربية، فتلك وجه آخر للحكاية الفلسطينية، جميلة في دوار المنارة، دبلوماسية حد الجنون في مقر المقاطعة، أوج عنفوانها في الخليل، صلبة في نابلس، حنونة في بيت لحم، وعنيدة على مداخل جنين.
ليلى هنا تجمع كل التناقض، تقف على الحواجز، تسلّم تصاريح العبورعند كل نقطة تفتيش، تضجر، تنفجر، تصرخ، تطعن، يطلق الرصاص الحي على صدرها. يظن الناس أنها ماتت، فتخرج المسيرات السلمية، يرفع غصن الزيتون في تشييع تلك الصبية، ثم تعود الأطر الرسمية تقدم بيان التنديد، تشجب، تستنكر، ثم تكتشف أن ليلى لم يقتلها الرصاص، وأنها لا تزال تتنفس في وجوه كل الناس.
تحاول الفكاك من قبضة الحصار الذي يحكم خناقه على رقبتها، يوجعها حد الموت، ولا تموت. تواري ألمها خلف ستارة مهترئة في مشفى حكومي شبه معتم، ومن خلفها مريض يئن على سرير متهالك، يعاني شحاً في الدواء، وإسعافاً خالياً من الوقود، وطنين إنذار في قسم العناية، وهدير طيران لم يخفت منذ البداية. وحين تسألها عن الصحة تقول: دعك من عناوين الصحف، ولا تقلق علينا فالصحة "بومب"!.
غريبة هذه الليلى التي ما فتئت شاشات التلفاز تبث أخبارها، ما بين عتمة وإغلاق معبر، وحاجز وسفر وعوز وقصف وهدم بيت، وإفلاس يضرب أطنابه على جيوب الناس، وموظف محروم من الراتب، يسأل إن كان من حقه أن يعاتب.
هذه الليلى واقفة على أقدامٍ من خشبٍ، ترقب مسيرات التنديد التي تطل على استحياء من بعيد، تلوّح بعصاها في وجه الجند الذين يلفونها بسلك شائك، ويطوقونها بالرصاص. تقاتل، تناور، تستخدم الدبلوماسية حيناً، والراديكالية حيناً، لأجل صد كل الأطماع، وتفكيك كل الكمائن التي نصبت لقتلها.
ليلى احدودب ظهرها، وهي في طريقها إلى الوطن، كانت عائدةً لولا أن قطع عليها الانقسام السياسي الطريق، فاضطرت لسلك طرق التفافية. وعليه، ضاعت القضية، عذراً أقصد هذه الصبية!. ليلى شاخت، ليلى تاهت، ليلى قاربت على الموت، ولم تمت.
جاءت إلى الشاطئ، تعبد مرفأً بحرياً، تقيم ميناء للسفر، حرقوا كل المراكب في وجهها. وفتحوا للبحر أبواباً أخرى، عساها تغرق، لكنها لم تغرق، لم تمت. مجنونة هذه الليلى لا تعرف الموت.
ليلى تجيء صباحاً إلى محطات الوقود، تسأل عن بقايا مخزون، تسأل نقاط الارتباط المدني عن إمكانية فتح المعبر الإسرائيلي في وجه السلع، أو عبور مريض يقتله الوجع؟
ليلى تصنع البدع: تشغل مركباتها على الزيت، ولا تقوى على دفع ثمن أجرة البيت، ورسوم الفصل واستخراج الورق طبق الأصل. ليلى تذهب إلى عملها صباحاً، مشياً على الأقدام، ليلى تأكل الأحلام.
ليلى التي في السجن حزينة أيضا، فهي لا تقوى على دفع رسوم "الكنتينة"، تشتهي قطف التين، قبل أن يمر تشرين. ترتجي التقاء البنات والبنين، يموت العمر خلف القضبان، ولا يفنى النضال.
وليلى القدس عنيدة، ترى عبوسها في قتامة قبة الصخرة، في صليب منكس، في وجه رجل يبيع الكعك في أرذل العمر، ولا ييأس، في محل لحلواني ينصت للمذيع من دون امتاع: مريت في الشوارع، شوارع القدس العتيقة. يرد بصوت خافت: في شوارع القدس جند يعربدون، فماذا أنتم فاعلون؟ ثم يغلق المذياع، ويتجه إلى صلاة الظهر، توقفه شرطية زنجية، تستجوبه ثم تطلب الهوية، كعادة إجراءاتها الروتينية.
ليلى تجلس عند باب العمود، تطرز فستاناً جميلاً لابنة شهيد، ترقب صباح العيد، عساها تلمح طيف أبيها يمر من فوق القباب، يذبح كبشاً ينثر دمه، يطبع بكفة يده خمسة على الباب. ثم يعود يلوّح بكفه الأحمر، عائداً إلى السماء.
أما ليلى الضفة الغربية، فتلك وجه آخر للحكاية الفلسطينية، جميلة في دوار المنارة، دبلوماسية حد الجنون في مقر المقاطعة، أوج عنفوانها في الخليل، صلبة في نابلس، حنونة في بيت لحم، وعنيدة على مداخل جنين.
ليلى هنا تجمع كل التناقض، تقف على الحواجز، تسلّم تصاريح العبورعند كل نقطة تفتيش، تضجر، تنفجر، تصرخ، تطعن، يطلق الرصاص الحي على صدرها. يظن الناس أنها ماتت، فتخرج المسيرات السلمية، يرفع غصن الزيتون في تشييع تلك الصبية، ثم تعود الأطر الرسمية تقدم بيان التنديد، تشجب، تستنكر، ثم تكتشف أن ليلى لم يقتلها الرصاص، وأنها لا تزال تتنفس في وجوه كل الناس.
مقالات أخرى
18 يناير 2018
21 مايو 2016
07 مارس 2016